إِذَا كَانَ اللهُ غَنيّاً عَنَّا فلماذا يأمُرُنَا بِعِبَادَتِه؟
لماذا وُجدنا؟ وما الغاية من وجودنا في الدنيا؟ هذه من الأسئلة الملحَّة على النفس البشرية، التي حيَّرت الألبّاء وشغلت الأذكياء في كل مراحل التاريخ، وهو في الوقت ذاته من أخطر الأسئلة الوجودية على الإنسان؛ فكل إرادات الإنسان وحركاته وأفكاره وسلوكياته ستتحوَّر وفقًا للغاية التي يُحددها لوجوده بطبيعة الحال؛ ولذا فصَّلَ -سبحانه وتعالى- القول في الغاية من خلْق الخلْق، قال عزَّ من قائل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، فالغاية التي خلق الله من أجلها الخلق، هي عبادته -سبحانه وتعالى.
اعتراض وتساؤل
وهنا يعترض بعضهم فيقول: أليس الله غنيّاً عنَّا؟ فلِمَ يأمرنا بعبادته سبحانه؟
نقول: ليس معنى خلقِنا لعبادته أنه -سبحانه وتعالى- محتاج إلى عبادتنا جلَّ وعلا، بل نحن المحتاجون إليه سبحانه، كما قال-تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر: 15).
فالله -سبحانه وتعالى- لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين، كما في الحديث القدسي «يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئا»؛ فليست عبادتنا لله -عز وجل- تعني أنه محتاج لتلك العبادة! وإنما نحن المحتاجون إليه -سبحانه وتعالى-.
وتوضيح ذلك مثلًا: ماذا لو كنت بحاجة إلى مهندس معماري لبناء بيتك؟ وكنت قد عرفت أن في منطقتك مهندسًا معماريًّا بارعًا ومتميزًا، وآخر مهارته محدودة في الهندسة، وكلاهما يعملان بالتكلفة نفسها، فأيهما ستختار؟
حتمًا ستختار (الأول)؛ لأنه الأكفأ والأكمل، وتسلِّم لقوله وتستجيب لطلباته وإن كلَّفك وقتًا ومالًا وجهدًا؛ ذلك أن البحث عن الكمال غريزة بشرية وركيزة أساسية في النفوس، ولله المثل الأعلى.
الكمال المطلق
فكيف بالله -سبحانه وتعالى- الذي له الكمال المطلق، في أسمائه وأوصافه وأفعاله سبحانه، فنحن نسلِّم لربنا ومولانا بما اختار لنا، وبالغاية التي بيَّن أنها الحكمة من خلقِه لنا؛ لأنه -سبحانه وتعالى- الأكمل، بل له الكمال المطلق في كل شيء، في العلم والقدرة والحكمة، وفي الرحمة والرأفة سبحانه، أفلا نسلِّم لقوله ونذعن لأمره -سبحانه وتعالى؟!
وتأمل قوله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه: 14)، كيف نبَّه على كمال ربوبيته وألوهيته، ثم أمر بعبادته سبحانه؟!
أثر صفاته وأفعاله سبحانه
هذا من جهة، ولو نظرنا من جهة أخرى، فإن من الكمال أن يَظهر أثر صفاته وأفعاله وكمالاته على الخلق -سبحانه وتعالى-، ولو كانت المخلوقات كلها تخضع له دون اختيارٍ منها ورغبة لم يظهر ذلك الأثر، فكيف يظهر لنا أثر كمال فضله وكرمه ومحبته إن لم يكن ثمَّة من يُحسن طوعًا من نفسه ويستحق الكرم والفضل؟!
أم كيف يظهر كمال رحمته وحِلمه ومغفرته إن لم يكن ثمَّة من يذنب ويتوب؟! أم كيف يظهر كمال عدله إن لم يكن ثمَّة من يظلم؟!
الانقياد لله-تعالى-
ولذا فإن الله-تعالى- خلق الخلق لا ينفكُّون عن عبادته وطاعته، بل {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (الإسراء: 44)، فهم لا يستطيعون غيرها، ولا يملكون إلا الانقياد لله-تعالى-، ولكن الله ميَّز الثقلين عن كل خلائقه، وكرَّمهم بأن أعطاهم حرية الاختيار بين أن يطيعوه أو يعصوه؛ فيعبده الصالحون طوعًا من أنفسهم وطمعًا في فضله وكرمه، ويعصيه غيرهم فيحكم فيهم بعدله سبحانه، فهذا أحد أهمّ مظاهر الكمالات الإلهية.
الأمانة التي عرضت على الخلق
وهذه الحرية في الاختيار هي الأمانة التي عرضها على كل المخلوقات فلم تُطق تحمُّلها، وتفرَّد الإنسان بتحمّلها كما أخبر الله-تعالى- عن ذلك بقوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} (الأحزاب: 72)، يقول ابن عباس - رضي الله عنه -: «الطاعة عرضها عليها قبل أن يعرضها على آدم، فلم تطقها، فقال لآدم: يا آدم إني قد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال، فلم تطقها، فهل أنت آخذها بما فيها؟ فقال: يا رب: وما فيها؟ قال: إن أحسنت جُزيت، وإن أسأت عُوقبت، فأخذها آدم فتحمّلها.
ولِمَ لا يتحمَّل الإنسان تلك الأمانة وهو يدرك عظيمَ فضلِ الله-تعالى- وجزيلَ ثوابه وشرفِ من تحمَّلها عنده سبحانه؟! وهذا ما يظهره لِحاق الآية: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 73).
لِمَ خلق الله الخلق؟
وسُئل جعفر الصادق: لِمَ خلق الله الخلق؟ فقال: «لأنّ الله -سبحانه- كان محسنًا بما لم يزل فيما لم يزل، إلى ما لم يزل، فأراد -سبحانه وتعالى- أن يفوّض إحسانه إلى خلقه وكان غنيًّا عنهم، لم يخلقهم لجرّ منفعة، ولا لدفع مضرّة، ولكن خلقهم وأحسن إليهم وأرسل إليهم الرسل حتّى يفصلوا بين الحق والباطل، فمن أحسن كافأه بالجنة، ومن عصى عاقبه بالنار.
وهذا غايةٌ في الكمال أن يعطي خلقًا من خلقه القدرة والاختيار بين الطاعة والمعصية، فيختاروا هم عبادته -سبحانه- وينالوا عظيم فضله وكرمه -عز وجل-، دون جبر منه أو إكراه على عبادته؛ فإن «أمر الله أعظم من أن يُجبِر ويقهَر، ولكن يقضي ويقدر ويخلق ويجبل عبده على ما أحب.
تكريم الإنسان
ولأجل تحمّل الإنسان الأمانةَ كرّمه الله على خلائقه، وفضَّله عليهم، وأسجد له ملائكته، وخصّه بدخول جنته سبحانه، بل وجعله خليفة يخلفه في الأرض بذلك. يقول ابن جرير -رحمه الله- في تأويل قوله-تعالى-: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30): «إني جاعل في الأرض خليفةً منّي يخلفني في الحكم بين خلقي، وذلك الخليفة هو آدمُ ومن قام مقامه في طاعة الله... وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقّها فمِن غَير خُلفائِه، ومن غير آدم؛ لأنه أضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقّها إلى ذُرّية خليفته دونه، وأخرج منه خليفته.
وظهور هذا الكمال لله-تعالى- ليس مفتقرًا إلى وجود الإنسان أو محتاجًا إليه، ولكن كمال المولى -سبحانه وتعالى- الذي يترتب عليه ظهور آثار كمالاته على الإنسان من غير حاجة لذلك الإنسان، ألا ترى إلى الشمس كيف يظهر أثر نورها على الخلق دون حاجة منها لتلك الخلائق؟ ولله المثل الأعلى -سبحانه وتعالى.
نكران تحمل الأمانة
وقد يقول قائل: أنا لا أتذكر أني وافقت على تحمّل هذه الأمانة التي تزعمها!
فالجواب أن هذا هو سرُّ الامتحان، فإننا لو كنَّا نتذكَّر ذلك العهد والميثاق المبرم مع ربنا -سبحانه- لم نكن لنُعرض عن عبادته، ولا فائدة حينئذ من حرية الاختيار، ولم يكن ثمَّة امتحان واختبار؛ لأن حقيقة الاختبار هو في الإيمان بالغيب، فالمتقون هم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة: 3)، ولو لم يكن الأمر غيبًا لاستجاب الناس كلُّهم لأمر الله ولم يتخلف أحد. تمامًا كما لو كان هناك اختبار من اختبارات الدِّراسة، وسُمح للطلاب بالكشف عن مصدر المعلومات، فسيُجيب الجميع، وأيُّ معنًى للاختبار حينئذ؟!
كمال الرحمة والمغفرة
وعرض تحمِّل الأمانة ذاتُه مظهر من مظاهر كمال رحمته ومغفرته وعفوه -سبحانه وتعالى-؛ ذلك أن المخلوق الناقص وإن قَبِل تحمُّل الأمانة فلا شكَّ أنه لن يستطيع أداءها على وجه الكمال والتمام، بل لا محالة سيحصل منه التقصير ما دام أنه مخلوق ناقص، وهذا ما حصل بالفعل لأبينا آدم -عليه السلام- بعد تحمِّل الأمانة، عن ابن عباس -رضي الله عنه -: «عُرضت على آدم -أي الأمانة-، فقال: خذها بما فيها، فإن أطعت غفرت لك، وإن عصيت عذبتك، قال: قد قبلت، فما كان إلا قدر ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة».
وإذا كان التقصير لا محالة حاصل، فإن المؤمن منهم بربِّه والمؤمِّل لعفوه سيتَّجه إليه بالاستغفار والتوبة، فيغفر الله له ويتوب عليه، ويجيب دعوته فيظهر كمال عفوه ورحمته، وفي هذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم».
هل حقًّا نحتاج إلى العبادة؟
إن كثيرًا من أرباب العلم التجريبي يقرُّ بأن التعبُّد والتديُّن خاصية أساسية في الإنسان، وبهذا يصرِّح المؤرخون، ومن ذلك المقولة الشهيرة للمؤرخ الإغريقي بلوتارك: «لقد وجدنا في التاريخ مُدُنًا بلا مدارس، ووجدنا في التاريخ مُدُنًا بلا حصون، ووجدنا في التاريخ مُدُنًا بلا مستشفيات، ولكن ما وجدنا في التاريخ مُدُنًا بلا معابد».
ولم يقتصر الأمر في الأمم الغابرة، بل بات فرعًا من فروع علم الأعصاب الذي أصبح يعرف باسم (Neurotheology) أي أعصاب علم اللاهوت! وهو يسعى للكشف عن حقيقة العلاقة بين الجهاز العصبى وظاهرة التعبُّد! بل بلغ الحال ببعضهم إلى البحث عن الجين المسؤول عن التعبُّد! وألّف في ذلك العالم الأمريكي (دين هامر) كتابًا سمَّاه (الجين الإلهي: كيف ضمّن الإيمان في جيناتنا؟)، وبعضهم يبحث عن سرِّ هذا التديُّن في العقل، كما فعل البروفيسور (كفن نيلسون) المختص في علم الأعصاب، وألّف كتابًا سمَّاه (الدافع لله.. هل تم تسليك الدين في عقولنا؟).
ومهما يكن من أمرٍ، فإن وجود هذه الدراسات دليل على إيمانهم بتجذُّر التعبُّد في الإنسان وأصالته، فالتعبُّد في الحقيقة حاجة إنسانية ملحَّة، وليس لله حاجة في ذلك، {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 97).
مقتضيات الكمال الإلهي
ختامًا أيها الإنسان: التعبُّد لله-تعالى- من مقتضيات الكمال الإلهي أوَّلًا، فضلًا عن كونه مقتضى من مقتضيات خلقه وإيجاده لك، بل أنت أحوج ما يكون إلى عبادته، فهي غريزة في نفسك وفطرتك، فما لك بعيد عن أبواب رحمته وهو يناديك -سبحانه وتعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186)؟!
لاتوجد تعليقات