رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 15 مارس، 2016 0 تعليق

{إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا}

القلب ملك الأعضاء، وهي جنوده، فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه

أولى القرآن الكريم القلب عناية كبرى، وبين خطورته وأثره في عمل الإنسان ومصيره، وبين أنواع القلوب بحسب ما يقوم فيها من المعاني العليا أو السفلى

 

يعتني كثير من الناس بصحة قلوبهم من حيث الغذاء المناسب، والرياضة المستمرة، والفحص الدوري، وهذا أمر طيب بلا شك، والأطيب من ذلك أن يعنى المسلم بصحة قلبه المادية، وسلامته المعنوية؛ فهذا هو الأمر الأهم كما قال تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ. إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء:88-89).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم» وأشار بأصابعه إلى صدره. وفي رواية: «ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».

قال النووي: «ومقصود الحديث أن الاعتبار في هذا كله بالقلب، وهو من نحو قوله صلى الله عليه وسلم : «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» أخرجه البخاري.

ومما يؤكد هذا المعنى قوله تعالى{يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم}(الأنفال:70)

     قال الشوكاني: «خاطب الله النبي صلى الله عليه وسلم بهذا: أي قل لهؤلاء الأسرى الذين هم في أيديكم أسرتموهم يوم بدر وأخذتم منهم الفداء {إن يعلم الله في قلوبكم خيرا} من حسن إيمان، وصلاح نية ، وخلوص طوية {يؤتكم خيرا مما أخذ منكم} من الفداء: أي: يعوضكم في هذه الدنيا رزقا خيرا منه، وأنفع لكم ، أو في الآخرة بما يكتبه لكم من المثوبة بالأعمال الصالحة».

     قال ابن عباس في هذه الآية : «كان العباس أسر يوم بدر، فافتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب، فقال العباس حين قرئت هذه الآية: لقد أعطانا الله - عز وجل - خصلتين، ما أحب أن لي بهما الدنيا: إني أسرت يوم بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية. فآتاني أربعين عبدا، وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله جل ثناؤه».

     قال ابن عاشور: «نزلت هذه الآية في ذلك، وهي ترغيب لهم في الإسلام في المستقبل، والمراد (بالخير) محبة الإيمان والعزم عليه، أي: فإذا آمنتم بعد هذا الفداء يؤتكم الله خيرا مما أخذ منكم. وليس إيتاء الخير على مجرد محبة الإيمان والميل إليه، كما أخبر العباس عن نفسه، بل المراد به ما يترتب على تلك المحبة من الإسلام بقرينة قوله: ويغفر لكم».

     وقد أولى القرآن الكريم القلب عناية كبرى، فقد وردت في شأنه آيات كثيرة تبين خطورة القلب، وأثره في عمل الإنسان ومصيره، وتبين أنواع القلوب بحسب ما يقوم فيها من المعاني العليا أو السفلى، فمن الآيات القرآنية الكريمة: قوله تعالى مبينا أهمية قصد القلب وكسبه: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (البقرة:225).

وقال سبحانه موضحا أن القلب قد يحمل الذنب والإثم: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}(البقرة: 283).

وقال تعالى مبينا أن من القلوب منيبا أوابا وهو الذي يستحق الجنة: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيب}(ق: 32-33).

وأخبرنا -سبحانه- بأن الإيمان سبب لهداية القلب فقال تعالى: {وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: 11).

وأرشدنا إلى سؤاله -سبحانه- ثبات القلوب بعد الهداية فقال:{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (آل عمران: 8).

وبين -سبحانه- أن من القلوب ما هو مطمئن بالإيمان كما قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ}  (الرعد:28).

ومن رحمته -تعالى- أنه يوفق من شاء للهداية والإيمان فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُون} (الحجرات:7).

وفي المقابل فإنه يختبر قلوب عباده كما قال تعالى:{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُم} (آل عمران: 154).

     وأخبر أن بعض القلوب مريضة بالشك والشرك والنفاق والغفلة كما قال سبحانه: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا}، وقال تعالى: {فأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } (آل عمران:7)، وقال سبحانه: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (التوبة:45) ، وقال تعالى:{وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}(الكهف: 28). وهناك القلب المتكبر كما قال سبحانه: {كذلك يطبع الله على كل قلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } (غافر: ٣٥)

وهناك القلبُ الأَعْمَى كما قال سبحانه: {وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } (الحج: ٤٦)

وكسب الكفر والمعاصي سبب للطبع على القلوب كما قال تعالى:{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين: 14).

     وفي الآخرة عقوبة النار لمن أهمل قلبه عن الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179)

ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم أهمية دور القلب في إيمان المسلم واستقامته فيقول: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه» أخرجه الإمام أحمد وحسنه الألباني.

     قال ابن رجب: «فمتى استقام القلب على معرفة الله وخشيته، وإجلاله، ومهابته، ومحبته، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكل عليه، والإعراض عما سواه، استقامت الجوارح كلها على طاعته؛ فإن القلب ملك الأعضاء، وهي جنوده، فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه».

     ولا غنى للمسلم عن تثبيت الله -تعالى- له وحفظه؛ فقد ورد في مسلم عن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء». قال الشوكاني: «والحاصل أن تثبيت قلب العبد على الدين وانصرافه إلى الحق من أعظم أسباب النجاة والفلاح والعصمة عن كثير من الذنوب».

      فعلى المسلم أن يعنى بطهارة قلبه ونظافته من أدران العقيدة الفاسدة والأخلاق الرديئة، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَال: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَال: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ» قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ». صححه الألباني في صحيح ابن ماجه

فقوله:(مخموم) يدل على النظافة كما قال ابن الأثير: «هو من خممتُ البيت إذا كنستَه».

نسأل الله -تعالى- الإيمان والاستقامة والثبات، وأن يطهر قلوبنا من الشرك والشك والنفاق وكل ما نهانا الله عنه، وبالله التوفيق.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك