إنمــا الـغـيـب لله
الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه صنعاً وتدبيراً، {وخلق كل شيء فقدَّره تقديراً}، الذي أَمَدَّ الشاكرين بنعمه التي لا تحصى عدداً، {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً}، القائل في محكم كتابه: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله }.
ثم الصلاة والسلام الأكملان على سيدنا وحبيبنا عبدالله محمد، خاتم رسله وأنبيائِه، أمين وحيه ومبلغ أنبائِه، خَيْرُ من سَلَّمَتْ عليه الألسنة وصَلَّتْ، وسُلَّت لسُنَّتِه أَسِنَّة الأقلامِ وصُلَّتْ، أما بعد: فهذه مقالة حول مسألة عقدية عظيمة أشرت إليها من خلال عنوان المقالة، يسَّر الله إعدادها بعد أن جرت لي في مضمونها محاورة مع أحدهم، فقسمتها على نقاط عدة ، فإلى المادة:
1 – قاعدة حول مفهوم علم الغيب :
إن علم الإنسان بما غاب عن الحواس مبني على الأسباب ، وهذه الأسباب :
أ - إما أن تكون أسباباً شرعية: دل عليها نص من كتاب الله وسنة نبيه[ الصحيحة، وذلك كالعلم ببعض ما سيقع يوم القيامة، فهو علمٌ بمغيب لكنه علم تَحَصَّلَ بسبب شرعي.
ب - وإما أن تكون أسباباً مادية كونية : دلت عليها التجارب الحسية الصحيحة في العلوم المادية ، وذلك كالعلم بما في بطن المرأة من خلال الأجهزة مثلاً، فهذا علم بمُغَيَّب لكنه علم تَحَصَّلَ من خلال الأسباب المادية .
فإذا نُسب إلى أي مخلوق أنه يعلم بغير سبب مادي حسي، وبغير سبب شرعي دل عليه القرآن والسنة النبوية الصحيحة، فهنا تكون نسبة علم الغيب لغير الله.
فالمراد بنسبة علم الغيب لغير الله: أن يُعتقد في ذلك الغير أنه يعلم ما غاب عن الحواس من خلال ما لم يثبت كونه سبباً للعلم، ويزيد هذا الأمر وضوحاً ذكر بعض الأمثلة والتطبيقات في النقطة الآتية.
2- من التطبيقات على القاعدة السابقة:
أ - عندما يُنقل -كذبا-عن جعفر الصادق رحمه الله أنه قال: إني لأعلم ما في أصلاب الرجال وأرحام النساء. «بحار الأنوار (26/27)».
فنقول: هل هناك سبب مادي حسي يعلم جعفر الصادق من خلاله ذلك - وخاصة في زمنه - قبل وجود المجاهر والمختبرات العلمية ونحوها ؟ الجواب : لا .
فإن لم يكن فنقول: هل هناك سبب شرعي ورد في القرآن أو السنة يبين لنا كيف نتعرف على ما في أصلاب الرجال؟ الجواب أيضاً: لا .
فإذاً نسبة هذا الأمر إلى جعفر الصادق تعد نسبةً لعلم الغيب إلى غير الله تعالى؛ لأنه علم ما في أصلاب الرجال بغير سبب مادي حسي وبغير سبب شرعي.
ب – وكذلك أيضاً ما يروى – كذباً - عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: لقد علمت ما فوق الفردوس الأعلى, وما تحت السابعة السفلى وما في السموات العلا وما بينهما وما تحت الثرى, كل ذلك علم إحاطة لا علم إخبار. «مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين ص 166-170».
فنقول: لا شك أن الذي له ملك وعلم {ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى} هو الله تبارك وتعالى، فهل يستطيع المخلوق - من خلال الأسباب المادية الحسية - أن يعلم بكل ما فوق الفردوس الأعلى وتحت الأرض السابعة وما في السموات العلا وما بينهما؟ الجواب: لا.
إذاً هل ورد دليل شرعي - في الكتاب أو السنة الصحيحة - يذكر لنا ذلك، فيكون سبباً لنعلم من خلاله كل تلك الأمور المذكورة آنفاً؟ الجواب: لا.
فنسبة هذا الأمر إلى علي - رضي الله عنه - تعد نسبةً لعلم الغيب إلى غير الله تعالى؛ لأنه علم كل تلك الأمور بغير سبب مادي حسي وبغير سبب شرعي.
3 – شماعة «بإذن الله»: تعددت الأسباب والنتيجة واحدة:
من الشبهات التي يُراد بها التهوين من شأن بعض المعتقدات الشنيعة: تعليقها على إذن الله سبحانه؛ فالأولياء والأئمة يَخْلُقُون ويَرْزُقون بإذن الله، ويُحيون ويميتون بإذن الله، ويتصرفون بالكون بإذن الله.
وكذلك الأمر في نسبة علم الغيب إلى المخلوقين يقولون: إن الأئمة أو الأولياء أو السادة يعلمون الغيب لا بذواتهم وإنما بإذن الله بسبب التعليم – بكيفية معينة - أو بسبب الوحي أو بسبب الإلهام ، أو بغيرها من الأسباب التي مهما تعددت ستظل النتيجة واحدة وهي: أن الأئمة أو الأولياء يعلمون الغيب؛ إذ إنه لا فرق في ذلك بين كونه يعلم الغيب بإذن الله أو استقلالاً؛ لأنه في النهاية ستكون النتيجة والمحصلة النهائية هي أنه: يعلم الغيب !
ولا يعقل أن يأمر الله عز وجل نبيه بأن ينفي عن نفسه علم الغيب ، في حين أنه في الواقع يعلم الغيب!
يقول سبحانه: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب}، ويأمر عز وجل نبيه أن يقول: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم}، ويقول عز وجل: {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء}.
4 – من تناقضاتهم في «كيف يعلمون الغيب؟»:
أ - يعتقد بعضهم – مستشهدين ببعض الروايات – أن الأئمة أو الأولياء يعلمون الغيب بواسطة كُتُبٍ توارثوها عن رسول الله [، إلا أن هذا القول فيه تكذيب ضمني للأخبار الواردة في الأبواب التي قالت بأن علم الإمام بالإلهام أو بالوحي وإرسال ملائكة كجبريل ومن هم أعظم من جبريل عليه السلام. الكافي (1/ 264 باب جهات علوم الأئمة).
والعكس صحيح: فالقول بأن علم الإمام أو الولي للغيب بواسطة وحي وإرسال ملائكة وإلهام مباشر من الله تعالى ينفي وجود الحاجة إلى كتب وصحف تحتوي أخبار كل شيء يحتاجه الناس وأخبار ما كان ويكون!
وقد قال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}، يقول الشيخ يوسف بن عيسى القناعي في «الملتقطات (6 / 603 ط2)»: فالمفاتح جمع مفتاح، وقرئ: {مفاتيح الغيب}، ففي هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل كل من يدعي الغيب والكشف والإلهام, وقد ابتلي المسلمون بقوم سوء من هذه الأجناس.
ب – أن بعضهم يعلّم بعضاً، فالأب يعلم ابنه ثم الابن يعلم ابن ابنه، وهكذا.
وهذا القول ينتقض بمجرد التحدث عن علم أولياء من الشخصيات التاريخية التي بعضها محل إجلال وتقدير لدى المسلمين مثل : محمد الجواد بن علي ، وعلي الهادي بن موسى .
فهؤلاء تركهم آباؤهم وهم أطفال صغار - في السن الرابعة وما قاربها - فلم يتعلموا من آبائهم؛ لأن من كان في هذه السن فليس في حد من يتفرغ لتعلُّم دقيق الدين وجليله؛ مما جَرَّ القوم ليقولوا بأن تلك الشخصيات علمت العلوم كلها من الله مباشرة بدون معلم، خشية من الاعتراف بتلقي العلم من أحد؛ لأن ذلك المعلم سوف يصبح أفضل منهم.
5 - استشهادهم بقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مِنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}:
لقد أمر الله تعالى نبيه- عليه الصلاة والسلام - أن يقول لقومه الذين عاصرهم وعايشهم: {وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم}؛ ولذلك فإن معنى الآية – أي التي استشهدوا بها - كما قال الشوكاني: فإنه يطلعه على بعض غيبه ليكون ذلك دالا على نبوته.
ومع هذا فلم يقل لنا أولئك القوم: كيف أدخلوا الأولياء أو الأئمة من أهل البيت أو غيرهم في إطار الرسل الذين يستثنيهم الله تعالى من المعرفة ببعض الغيب؟! وعلى أي أساس؟!
فالآية تفيد بأن كل من أخبر عن الغيب عن غير طريق الرسول فهو كاذب منازع لله تعالى في صفات عظمته، قال ابن جُزي الكلبي رحمه الله في تفسيره (2/ 155): {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} أي لا يُطلع أحداً على علم الغيب إلا من ارتضى وهم الرسل فإنه يطلعهم على ما شاء من ذلك، واستُدل بها على نفي كرامات الأولياء الذين يدعون المكاشفات اهـ.
ختاماً: أسأل الله تعالى أن يجعل ما نقول ونعمل مقبولاً عند الله نافعاً عند الخلق، وأن يبلغنا مرضاته ويغفر لنا ما قدمنا وما آخرنا، وما أسررنا وما أعلنا وما هو أعلم به منا.. آمين آمين.
لاتوجد تعليقات