رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ أحمد بن عطية الوكيل 22 ديسمبر، 2014 0 تعليق

إلى من يجهله ويطعن فيه(5) محمد بن إسماعيل البخاريّ


فتنة البخاريِّ في نيسابور، بسبب محمد بن يحي الذُّهْلِيِّ :

دخل البخاريُّ نيسابور في سنة خمسين ومِئتين مِن الهجرة، ورأيت - فيما تقدم - كيف كان استقبالُ الناس له في حَفَاوةٍ، واحتفالٍ شعبيٍّ هائل، حتى قال عُمدة نيسابور وإمامُها في الحديث محمد بنُ يحيى الذُّهليُّ: اذهبوا إلى الرجل الصالح العالم محمد بن إسماعيل فاسمعوا منه.

     وفي رواية أخرى قال الذهلي: مَن أراد أن يستقبل محمد بنَ إسماعيل غدًا فليستقبله فإني أستقبله؛ وحَرِصَ الذهليُّ ألا يقع بينه وبين البخاري ما ينغص الود بينهما حال وجوده في نيسابور، فقال لعلماء نيسابور: لا تسألوه عن شيء مِن الكلام؛ فإنَّه إنْ أجابَ بخلاف ما نحنُ عليه وقعَ بيننا وبينه وشمَّتَ بنا كلَّ نَاصِبيٍّ ورَافِضيٍّ وجَهمِيٍّ ومُرجيءٍ بِخرَاسان.

فازدحم الناسُ على مجلس البخاريِّ في نيسابور، حتى امتلأت الدار والسطوح، وازدادوا عليه يومًا بعد يوم؛ وقد كانوا يزدادون بقدر ما كانوا يتناقصون مِن مجلس الذُّهلي؛ فمَا تمَّ الشهرُ حتى حسده الذهليُّ وغار منه، ووجد عليه في نفسه .

     وأيضا كان قد سُئِلَ البخاريُّ عن خلق القرآن، فقال: القرآن كلام الله غير مَخلوق، ولفظي بالقرآن مَخلوق، وأفعالُ العباد مَخلوقة؛ وفي رواية مسلم تحديدًا، قال: أفعالُنَا مخلوقةٌ، وألفاظُنَا مِن أفعالِنا؛ وفي رواية ابن عدي تحديدًا، قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعالُ العبادِ مخلوقة، والامتحانُ بدعة.

واستدلَّ البخاريُّ على ذلك بحديث حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الله يصنعُ كُلَّ صانِعٍ وصنعَتَهُ».

فاتخذها الذُّهليُّ ذريعةً، لِيُشَغِّبَ على البخاري، فقال: القرآن كلام الله غيرُ مَخلوق، ومَن قال القرآن كلام الله مخلوق فقد كفر، ومَن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، لا يُجَالَسُ ولا يُكَلَّمُ .

ودعا الذُّهليُّ عُلَمَاءَ نيسابور لمقاطعته، فقال: ألا مَن يختلفُ إلى مجلس البخاري فلا يأتِيَنَا، فإنهم كتبوا إلينا مِن بغداد أنه تكلَّم في اللفظ، ونهيناه فلم ينته فلا تقربوه. وقال مرَّةً: لا يُساكِنُنِي هذا الرجل في البلد.

ولما كان الذُّهليُّ ذا جاهٍ عريضٍ، وصاحبَ سُلْطانٍ قويٍّ على أهل العلم في نيسابور؛ بدأ الناسُ يمتثلون له، وانقطعوا عن البخاري، إلا مسلم بنُ الحجاج وأحمد بنُ سلمة، وكانا مِن تلاميذ الذهليِّ.

وقد قال الذُّهليُّ يومًا بمحضرٍ منهما: ألا مَن قال باللفظ فلا يحلُّ له أن يحضرَ مجلِسَنَا، فأخذ مسلمٌ رداءَهُ فوقَ عمامتِهِ وقامَ على رؤوس الناس، وبعثَ إلى الذهليِّ جميعَ ما كان قد كتبه عنه على ظَهْرِ جِمالٍ، ولم يرو عنه مسلمٌ البتةً .

     أمَّا أحمد بنُ سلمة، فقد قال: دخلتُ على البخاريِّ، فقلتُ: يا أبا عبدالله! إنَّ هذا رجلٌ مقبولٌ بخُرَاسان، ولاسيما في هذه المدينة، وقد لجَّ في هذا الأمر، حتى لا يقدرُ أحدٌ مِنَّا أنْ يكلِّمَهُ فيه، فما ترى؟ قال: فقبض البخاريُّ على لحيته، ثم قال: وأفَوِّضُ أمري إلى الله، إنَّ اللهَ بصيرٌ بالعباد، اللهُمَّ إنَّكَ تعلمُ أنِّي لم أُرِدْ المُقَامَ بنيسابور أَشِرًا ولا بَطَرًا ولا طَلَبًا للرياسةِ ، وإنَّما أَبَتْ عَلَيَّ نفسي الرُّجوعَ إلى الوطن لِغَلَبَةِ المُخَالِفين، وقد قصدَنِي هذا الرجل - يعني: الذهلي - حسدًا لِمَا آتانِيَ اللهُ لا غير، ثم قال لي: يا أحمد! إنِّي خارجٌ غدًا، لِتَخْلُصُوا مِن حديثِهِ لأجلي.

قلتُ - أبوعَمرو أحمد بنُ عطية الوكيل، غفر الله له ولوالديه ولمشايخه والمسلمين:

هكذا أبى البخاريُّ أنْ يذلَّ نفسه، ويجلس في بلدٍ فيها مَن يكره وجودَهُ مِن أهل العلم، وقد كان بإمكانِهِ أنْ يبقى، ويكون له أتباعه، وهم ليسوا بالقليل، الذين يؤازرونه في رأيه، وإنْ كان صحيحًا؛ إلا أنه اختار الخروج مِن هذه البلدة درءًا للفتنةِ، ومنعًا للقيلِ والقال بين الناسِ بسببه.

وانظر: سير الأعلام 12/453-463، طبقات الشافعية 2/228-231، هدي الساري/ص490، تغليق التعليق 5/432.

فتنة البخاريِّ في بُخَارَى، بسبب واليها خالد بن أحمد خليفة ابنِ طاهر:

     لمَّا رجعَ أبوعبدالله البخاريُّ إلى بخارى واستقبله أهلها -كما تقدم- على فرسخٍ منها وقبل أنْ يدخلها، بالدنانير، والدراهم، والسُّكَّر الكثير ؛ فما بَقِيَ على ذلك إلا أيامًا، حتى بعث الأمير خالد ابنُ أحمد الذهليُّ والي بخارى إليه، أنِ احمل إليَّ كتابَك: (الجامع الصحيح)، و(التاريخ)، وغيرَهما لأسمع منك - وفي رواية لتقرأهم على أولادي -، فقال البخاريُّ لرسولِهِ: أنا لا أذلُّ العِلْمَ، ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإنْ كانت لك إلى شيءٍ منه حاجة، فاحضر في مَسْجِدي، أو في دَاري؛ وإنْ لم يعجبْك هذا فإنَّك سلطانٌ ، فامنعني مِن المجلس، ليكونَ لِيَ عذرٌ عند الله يومَ القيامة؛ لأنِّي لا أكتمُ العِلْمَ، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ سئل عن علم فكتمَهُ أُلجِمَ بلجامٍ مِن نار». فلما امتنع البخاريُّ عن الحضور عنده، راسلَهُ الأميرُ مرَّةً أخرى بأنْ يعقِدَ مجلسًا خاصا لأولادِهِ، لا يحضرُهُ غيرُهُم، فامتنعَ أيضًا، وقال: لا أخصُّ أحدًا .

فكان هذا سببَ الوحشةِ بينهما .

     فاستعان الأميرُ بِحُرَيث بنِ أبي الورقاء - وكان مِن أكبر فقهاء الرأي ببخارى - وغيره، ليتكلموا في مذهب البخاري بالباطل، ويُشَغِّبُوا عليه، ويقولون إنه يفسد عليهم المدينة، وقد أخرجه محمد بنُ يحيى الذُّهليُّ مِن نيسابور وهو إمامُهُم في نيسابور؛ وفي نهاية الأمر نفاه الأميرُ عن البلد.

فدعا البخاريُّ عليهم  وقال: اللهُمَّ أَرِهِم ما قَصَدُونِي بِهِ في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم .

فاستجاب الله له؛ فأمَّا خالدٌ فلم يأت إلا أقلُّ مِن شهرٍ حتى ورد أمر الطَّاهِرِيَّةِ، بأن ينادى عليه في البلد، فنُودِيَ عليه وهو على أتانٍ، وأُشْخِصَ على إِكَاف، ثم صار عاقبةُ أمرِهِ إلى الذُّلِّ والحبسِ.

وكانت لخالد بن أحمد - كما قال الحاكم - آثار محمودةً ببخارى، إلا موجدتُهُ على البخاريِّ؛ فكانت سببًا في زوال مُلْكِهِ.

وأما حريث بنُ أبي الورقاء، فإنه ابتُلِيَ في أهلِهِ، فرأى فيها ما يجل عن الوصف. وأما فلانٌ فإنه ابتُلِيَ في أولادِهِ فأراه الله فيهم البلايا.

وانظر: سير الأعلام 12/463-466 ، طبقات الشافعية 2/231-232 ، هدي الساري/ ص493.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك