رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ أحمد بن عطية الوكيل 16 نوفمبر، 2014 0 تعليق

إلى من يجهله ويطعن فيه(4) وقفات مع الإمام البخاري وصحيحه

قال محمد بنُ أبي حاتم الوراق: سمعتُ البخاريَّ، يَقُول: ما اغتبتُ أحدًا قطّ مُنْذُ علمت أَنَّ الْغِيْبَةَ حرَامٌ، وسَمِعَهُ بكر بنُ مُنِير، يَقُول: إنِّي لأرجو أَنْ ألقَى الله ولا يُحَاسِبُنِي أَنِّي اغتبتُ أحدًا، قلتُ: لما صَانَ البخاريُّ نفسَهُ عن النَّمِيمةِ، ولم يذكُرْ غائبًا بسيِّءٍ؛ ارتاح ضميرُهُ، فقالَ مَا قالَ وسَمِعَهُ منه بكر بنُ مُنِير. رَ هدي الساري / ص480.

(52) عِفَّةُ لِسَانِ البخاري وأخلاقُهُ السَّامِيَة: للبخاري فِي كلامه على الرِّجَال تَوَقٍّ شديد وتحرٍّ بليغ وحرصٍ زائد؛ يظهرُ لِمَن تَأمل كلامَهُ في الجَرْح والتَّعْدِيل، فإِنَّ أَكثرَ ما يَقُول: سكتوا عَنهُ، فِيهِ نظر، تَرَكُوهُ، ونحو هذا. وقَلَّ أَنْ يَقُول: كَذَّاب، أَو وَضَّاع؛ وإنَّمَا يَقُول: كَذَّبَهُ فُلان، رَمَاه فُلان - يعني: بِالْكَذِبِ.

قلتُ: هكذا صانَ البخاريُّ كلامَهُ، حتى إنه لم يقُل في الكذَّاب -المشهور به-: كذاب؛ بل قال: كذَّبَهُ فُلان. فنقل تكذيبَهُ عن الناس تورُّعًا. رَ هدي الساري / ص480.

     (53) كيف كان حال البخاري وهو في صلاته؟ قال بكر بنُ مُنِير: كان محمد بنُ إسماعيل ذاتَ يَوْمٍ يُصَلِّي، فلَسَعَهُ الزُّنبُورُ سَبْعَ عَشرَةَ مَرّةً؛ فلمَّا قَضَى صَلاتَهُ، قال: انْظُرُوا أَي شَيْء هذا الذي آذَانِي في صَلاتِي. فنظروا، فإِذا الزُّنبورُ قد لَسَعَهُ في سَبْعَةَ عَشَرَ مَوضِعًا، ولم يقطع صَلاته!! وفي رواية محمد بنِ أبي حاتِم ورَّاقِ البخاري: قال لَمَّا سُئِلَ البخاريَّ لماذا لم تخرج مِن الصلاة؟ قال: كنتُ فِي آيَةٍ فَأَحْبَبْت أَنْ أُتِمَّهَا.

قلتُ: انظر يتحمل الأذى وهو أيسر عنده مِن أنْ يقطع لذة القراءة. رَ هدي الساري / ص480-481.

     (54) مع صِغر سِنِّ البخاري كان يردُّ على شيخه إنْ أخطأ: قال الفربرِيُّ: سمعتُ محمد بنَ أبي حاتم ورَّاق البخاريِّ، يقول: سمعتُ البخاريَّ يقول: ألهمتُ حِفظَ الحديث وأَنا في الكُتَّاب. قلتُ: وكم أتى عليك إِذْ ذَاك؟ فقال: عشر سِنِين أَو أقل. وسمعتُهُ يقول: خرجتُ مِن الكتَّابِ فَجعلتُ أختلِفُ إلى الدَّاخِلِيِّ وغيره، فقالَ يومًا فِيمَا كانَ يقْرَأُ للنَّاس: (سفيان عن أبي الزُّبَير عن إبراهيم)

فقلتُ: إنَّ أبا الزُّبَير لم يرو عن إبراهيم. فانتَهَرَنِي. فقلتُ لَهُ: ارجع إلى الأَصْل إِنْ كانَ عنْدك، فدخلَ فنظرَ فيه، ثمَّ رَجَعَ، فقال: كيفَ هُوَ يَا غُلَام؟ فقلتُ: هُوَ الزُّبَير - وهو ابنُ عدي - عن إبراهيم؛ فأخذ القَلَم وأصْلحَ كِتَابه، وقالَ لِيَ: صَدَقْتَ.

قال فقالَ لهُ إنسان: ابنُ كَمْ حِينَ رَدَدْتَ عليهِ؟ فقالَ: ابن إِحْدَى عشرَة سنة.

     قلتُ: انظر كيف علِمَ البخاريُّ في هذه السنِّ المُبكرة الخطأَ في الإسناد الذي ذكرهُ شيخُهُ عليهم وهو معهُم في المجلس، وأنَّ أبا الزبير - يعني: محمد بنُ مسلم بنِ تَدْرُس - وهو مَكِيٌّ، لا تَجِيء له الرواية عن إبراهيم - يعني: ابنُ يزيد النَّخَعِيُّ - وهو كوفِيٌّ؛ ولأنَّه ليس في المعتاد أن يروي المكيُّ عن الكوفيِّ، فرجع بذاكرته وبحث مَنْ مِنَ الكوفيين الذي يروي عن إبراهيم النَّخَعِيِّ الكوفيِّ، وفي اسمه كلمة (الزُّبَير)؟ فوجد أنه (الزُّبَير بن عدي)، وكان اختلط على شيخه (الزُّبَير بن عَدِي) بـ (أبي الزُّبَير) رَ هدي الساري / ص478.

     (55) انظر إلى فهم البخاري ودرايته بأسماء الرجال وكُنَاهُم: قال محمد بنُ أبي حاتم: قال البخاريُّ: كنتُ فِي مَجْلِس الْفرْيَابِيِّ - يعني: محمد بن يُوسُف، وهو مِن كبار شيوخه -، فقالَ: (حدثنا سفيان - يعني: الثوري -، عن أبي عُرْوَة، عن أبي الْخَطَّاب، عن أبي حَمْزَة). فَلم يعرف أحدٌ فِي المَجْلس مَنْ فَوقَ سفيان الثوري.

فقال البخاريُّ لهم: أَبُوعُرْوَة هو: معمَر بنُ رَاشد، وأَبُوالْخَطَّاب هو: قَتَادَة بنُ دَعَامة، وأَبُوحَمْزَة هو: أنس بنُ مَالك؛ قال: وكان الثوريُّ فَعُولاً لذَلِك يُكَنِّي الْمَشْهُورين.

     قلتُ أبوعَمرو - غفر الله له -: انظر كيف علِمَ البخاريُّ أسماءَ الرُّواةِ الذين وردُوا في الإسناد بالكُنْيَةِ؟ نظرَ البخاريُّ - رحمه الله - في طبقة شيوخ سفيان الثوري، ثم سأل نفسَهُ: مَن في شيوخ سفيان الثوري وكنيته أبوعُروة؟ فلما لم يجد، بحث: مَن في أقران سفيان وكنيته أبوعُروة؟ فوجده: معمر بنَ راشد. فبحث مَن في شيوخ معمر بن راشد وكنيته أبوالخَطَّاب . فوجده: قتادة. ومعروفٌ أنَّ قتادةَ يروي، عن أنس بنِ مالك - رضي الله عنه - وكنيته أبوحمزة. فلما رآه مستقرًّا عنده أذاع به، وقاله على الملأ في المجلس - رحمه الله -. رَ هدي الساري / ص478.

     (56) البخاري لم يكن ليستخدم سلطته عند الوالي ليحصل على حقِّه الذي اغتصبه بعضُ التجار: حكى ورَّاقَهُ أَنه وَرِثَ مِن أَبِيه مَالا جَلِيلًا، وكانَ يُعْطِيهِ مُضَارَبَة؛ فَقطع لَهُ غَرِيمٌ خَمْسَة وعشْرين ألفًا، فَقالوا لهُ: اسْتَعِنْ بِكِتَاب إلى الوَالِي. فقالَ: إِنْ أخذتُ منهُم كتابًا طمعوا، ولنْ أبيعَ ديني بدنياي؛ ثمَّ صَالح غَرِيمه على أَن يُعْطِيَه كلَّ شهر عشرَة دَرَاهِم، وذهب ذلك المال كلُّهُ. رَ هدي الساري / ص479، تغليق التعليق 5/394.

(57) ولم يباشر البخاريُّ البيعَ والشِّراءَ بنفسِهِ قط: قالَ محمد بنُ أبي حاتم ورَّاقُ البخاريِّ: وسمعتُ محمد بن إسماعيل البخاريِّ، يقولُ: مَا تولَّيتُ شِرَاءَ شَيْءٍ قطّ، ولا بَيْعه؛ كنت آمُر إنْسَانًا فيشتري لي ما أريد. قيلَ لهُ: وَلِمَ؟ قالَ: لِمَا فِيهِ مِن الزِّيَادَة والنُّقْصَان والتخليط. رَ هدي الساري / ص479.

     (58) وقال السَّفِيريُّ محمد بنُ عُمر المتوفى سنة 956 هـ في «شرحه على صحيح البخاري المسمَّى: المجالِسُ الوعظيَّة في شرح أحاديثِ خيرِ البريَّة» (ج1/ص53): طلبه العلم مع سعة هذا المال، نقل محمد بنُ أبي حاتم ورَّاقُ البخاريِّ، عن البخاريِّ، أنه قال: ما اشتريتُ مِنْ حِين وُلِدْتُ مِنْ أَحَدٍ بدرهمٍ، ولا بِعْتُ أَحَدًا شيئًا؛ فَسُئِلَ عن الورق الذي يكتب فيه والحبر؟ فقال: كنت أُوَكِّلُ إنسانًا يشتري لِي. فقال السَّفِيريُّ معقبًا على ذلك: فكيف لا يكونُ وَلِيًّا.

قلتُ أبوعَمرو أحمد بن عطية الوكيل - غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ولجميع المسلمين -: هو يعني أنَّ الوليَّ لا يُعرِّض نفسَهُ لشيءٍ مِن التخليط الحاصل في الأسواق عند مناقشة الأسعار؛ فهو لهذا ولغيره، يأتيه رزقه من غير تعب ولا تكلف. والله أعلم.

     (59) قال الحافظُ في هدي الساري: قالَ غُنْجَار فِي تَارِيخه: ثنا أحمد بنُ محمد بنِ عُمر المُقْرِيء: ثنا أَبوسعيد بكر بنُ مُنِير، قالَ: كانَ حُمِل إلى محمد بنِ إسماعِيل بضَاعَة مِن بعض عمَّالِهِ، وكانت البضاعةُ مطلوبةً، فَاجْتمع بعضُ التُّجَّار إليهِ بالعشية، وطلبوها منه بربح خَمْسَة آلاف دِرْهَم، فقالَ لهُم: انصرفوا الليلة، فجاءَهُ مِن الغَدِ تجارً آخَرُونَ، فطلبوا منه البضاعة بربح عشرَة آلاف دِرْهَم، فردَّهم، وقالَ: إنِّي نَوَيْتُ البارحةَ أَنْ أدفعها إِلَى الْأَوَّلين، فَدَفعهَا إليهِم، وقالَ: لا أُحِبُّ أَنْ أنقُضَ نِيَّتِي.

قلتُ: انظر لم يرد البخاري أن يغير نِيَّتَهُ ولو كانت له مصلحة في تغييرها. رَ هدي الساري / ص479-480، تغليق التعليق 5/395، صفة الصفوة 4/170.

     (60) وفي إنفاق البخاريِّ مالَهُ على طلبة العلم وعلى الفقراء، قال السَّفِيريُّ محمد بنُ عُمر المتوفى سنة 956 هـ في «شرحه على صحيح البخاري المسمَّى بالمجالِسِ الوعظيَّة في شرح أحاديثِ خيرِ البريَّة» (ج1/ص52)، نقل محمد بنُ أبي حاتم ورَّاقُ البخاريِّ، عن البخاريِّ، أنه قال: كنتُ أستَغِلُّ كلَّ شهرٍ خمسمائة درهم، فأنفقها في الطَّلَبِ، وما عند الله خير وأبقى، ثم قال ابنُ أبي حاتم معَقِّبًا على ذلك: ومع كثرة هذا المال، كان يأتي عليه نهارٌ لا يأكل فيه، وكان أحيانًا يأكل لوزتين أو ثلاثًا، وكان يتصدق بماله على الفقراء. رَ: هدي الساري / ص480، تغليق التعليق 5/395.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك