رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ أحمد بن عطية الوكيل 20 أكتوبر، 2014 0 تعليق

إلى من يجهله ويطعن فيه(1) وقفات مع الإمام البخاري وصحيحه

نشأ محمد بن إسماعيل البخاري يتيمًا، فقد توفي أبوه وهو صغير فتعهدته أمه وأخاه الأكبر أحمد، فلما ذهبت بهما إلى مكة لأداء مناسك الحج، قفلت راجعة مع ابنها الأكبر أحمد، وبقي محمد بمكة يطلب العلم، ويسمع الحديث من شيوخ مكة؛ وكان ذلك سنة عشر ومائتين هجرية، وهو ابن ستة عشر ربيعا.

(2) أحب البخاري الحديث فاتجه إلى سماعه في باكورة حياته، وكان يقول: ألهمت - أو رزقت - حب الحديث وأنا في الكتاب.

(3) كان البخاري يختلف إلى مشايخ البصرة وهو غلام صغير، وكان لا يكتب، حتى أتى على ذلك أيام، فلامه بعض المشايخ، لماذا لا تكتب يا غلام! ومازالوا ينهرونه، وهو لا يرد عليهم.

وبعد ستة عشر يومًا، قال البخاري لهم: قد أكثرتم علي، اعرضوا علي ما كتبتم؟

فأخرجوا ما كتبوه، فوجدوه زاد على خمسة عشر ألف حديث؛ فقرأها البخاري كلها عن ظهر قلب، حتى جعل المشايخ الكبار يحكمون ويصححون ما كتبوه من حفظ البخاري وهو غلام حدث.

(4) سمع البخاري الحديث على شيوخ بلده أولا؛ ثم رحل يطلب العلم في بلاد العالم الإسلامي؛ وكان يقول: أخذت الحديث عن أكثر من ألف شيخ، وليس عندي حديث إلا أذكر إسناده. 

(5) روى الخطيب البغدادي في تاريخه، قال: رحل البخاري - رحمه الله - إلى محدثي الأمصار، وكتب بخراسان والجبال ومدن العراق كلها، وبالحجاز والشام ومصر وورد بغداد دفعات.

(6) قال الحافظ في هدي الساري: قال البخاري: دخلت إلى الشام ومصر والجزيرة مرتين، وإلى البصرة أربع مرات، وأقمت بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد مع المحدثين.

قلت - أبوعمرو أحمد بن عطية الوكيل غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين-: قوله (الجزيرة) معناه بلاد ما بين دجلة والفرات بالعراق، وليس معناه (جزيرة العرب) كما هو متبادر.

(7) كان أبو الحسن إسماعيل بن إبراهيم والد البخاري - رحمهما الله تعالى - من العلماء ومن أهل الورع والزهد.

وقد رأى حماد بن زيد وصالح بن المبارك، وسمع مالك بن أنس، وحدث عن أبي معاوية وجماعة.

حدث عنه أحمد بن حفص، قال: دخلت على إسماعيل بن إبراهيم عند موته، فقال:  لا أعلم في جميع مالي درهما من شبهة.  راجع طبقات الشافعية الكبرى 2/213.

     قلت - أبوعمرو أحمد بن عطية الوكيل: هكذا ترك والد البخاري له ثروة طيبة حلالا؛ مكنته من الرحلة إلى اﻵفاق لتحصيل علم الحديث، حتى نيف عدد شيوخه على ألف رجل؛ وأفنى عمره في تعليم الناس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سمع منه الحديث عشرات الألوف من الناس. وراجع للمزيد: فقه الإمام الإمام البخاري للدكتور أبي فارس محمد بن عبدالقادر.

 (8) شغل البخاري بالعلم فكان لا يهجع إلا قليلا، قال محمد بن أبي حاتم الوراق: كان البخاري إذا كنت معه في سفر، يجمعنا بيت واحد، إلا في القيظ أحيانا، فكنت أراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة، في كل ذلك يأخذ القداحة، فيوري نارا ويسرج، ثم يخرج أحاديث، فيعلم عليها، ثم يضع رأسه، وكان يصلي وقت السحر ثلاث عشرة ركعة، وكان لا يوقظني في كل ما يقوم، فقلت له: إنك تحمل على نفسك كل هذا ولا توقظني! قال: أنت شاب، ولا أحب أن أفسد عليك نومك. انتهى. راجع له طبقات الشافعية الكبرى 2/220.

قلت: هكذا كان حال البخاري مع ربه يحرص على ثلاثة عشر ركعة كل ليلة وقت السحر.

وهكذا كان حاله مع وراقه الشفقة والرحمة به، وهكذا كان شغوفا بالعلم حتى وهو في مضجعه يقوم مرارا يقيد ما يجول بخاطره -رحمه الله.

(9) قال اﻹمام أحمد بن حنبل رحمه الله:  ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل.راجع ت بغداد 2/21، طبقات الحنابلة 1/277.

(10) قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى: سمعت أبي يقول:  انتهى الحفظ إلى أربعة من أهل خراسان: أبوزرعة الرازي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وعبدالله بن عبدالرحمن السمرقندي، والحسن بن شجاع البلخي. راجع ت بغداد 2/21.

11 - كان البخاري آية من آيات الله في حفظ الحديث ، وكان رحمه الله لا يكتب ما حفظه من الحديث في مجلس السماع ولا حتى عندما يرجع إلى بيته، انظر ماذا يقول هو عن نفسه: «رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر»، فقال له أحيد بن أبي جعفر والي بخارى حين سمع قوله هذا: يا أبا عبدالله تكتبه بكماله؟ فسكت - يعني أنه يكتبه بتمامه -

قلت : فهذه القدرة العجيبة على الحفظ لم تتفق لأحد غيره من الحفاظ الذين عاصروه. والله أعلم .

(12)  قال الذهبي في تذكرة الحفاظ 2/556: قال محمد بن خميرويه: سمعت البخاري يقول: «أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح»، وانظر هدي الساري ص488 .

( 13)  روى القاضي أبوالحسين ابن الفراء في كتابه (طبقات الحنابلة) (21/276) بسنده إلى حاشد بن إسماعيل ، قال: سمعت محمد ابن إسماعيل البخاري، يقول: «صنفت كتابي الصحيح لست عشرة سنة، وخرَّجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة بيني وبين الله».

(14) قال محمد بن أبي حاتم وراق البخاري: سمعت البخاري يقول وسئل عن حديث: «يا أبا فلان ، تراني أدلس! تركت أنا عشرة آلاف حديث لرجل فيه نظر، وتركت مثلها أو أكثر منها لغيره لي فيه نظر» . راجع له هدي الساري.

قلت: أولا البخاري يحفظ حديث الراوي المتكلم فيه كله، حتى يعرفه، ويتقيه في روايته، ويميزه عن الصحيح، وينبه على ضعفه حين يرويه غيره. يعني الحديث عنده ولا يرويه لما ذكرت. مثلا عنده حديث ابن لهيعة ولا يرويه.

ثانيا البخاري له منهجه الخاص في إطلاق كلمات التجريح في الرواة المتكلم فيهم ؛ فإن قال في الراوي مثلا «فيه نظر» فمعناه جرح شديد له ، كما تقدم هنا ترك حديثه كله وتجنب روايته، وقد التزم ذلك المنهج مع آلاف الرواة الذين تكلم فيهم ، حتى قال عن نفسه: وددت أني ألقى الله تعالى ، ولم يسألني أني اغتبت أحدا .

(15)  قال البخاري: «لقيت أكثر من ألف رجل من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر وخراسان، فما رأيت واحدا منهم يختلف في هذه الأشياء: إن الدين قول وعمل، وإن القرآن كلام الله»، راجع له طبقات الشافعية 2/217.
قلت : فالبخاري يشير إلى صحة اعتقاد مشايخه الذين روى عنهم العلم .

(16) لا يترفع البخاري أن يلتمس العلم عند الصغير فقد قال: «لا يكون المحدث كاملا حتى يكتب عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه».
قلت: وهو دأب الأئمة قبله ، فقد قال وكيع ابن الجراح: «لا يكون الرجل عالما حتى يحدث عمن فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه؛ إذاً فالمشيخة لا تقاس بالأعمار، لكن بالعدالة ويدخل فيها صحة المعتقد، والضبط ويدخل فيه صحة الرواية، ولتكن سن الشيخ بعد ذلك ما تكون .

(17)  قال البخاري رحمه الله: «لو قيل لي: تمنَ، لما قمت حتى أروي عشرة آلاف حديث في الصلاة خاصة»،

قلت: هكذا كان حفظه في باب واحد من أبواب العلم.

وقال وراقه محمد بن أبي حاتم : سمعته يقول: «ما نمت البارحة حتى عددت كم أدخلت في تصانيفي من الحديث، فإذا هو نحو مائتي ألف حديث».

قلت : هكذا كان نومه وهمه وانشغاله .

(18)  قال البخاري: قال لنا رجل: سمعت إسحق بن راهويه يقول: «كأني أنظر إلى سبعين ألف حديث من كتابي»، فقلت له: «أو تعجب من هذا القول؟ لعل في هذا الزمان من ينظر إلى مائتي ألف حديث من كتابه». 

فقال الراوي عن البخاري: وإنما عنى نفسه.

قلت: انظر كيف كان علماء الحديث - عليهم رحمة الله - متمكنين من حفظهم على أن ما حفظوه دونوه أيضا في كتبهم .

(19) حدث البخاري عن نفسه، فقال: «ذاكرني أصحاب عمرو بن علي الفلاس بحديث، فقلت: لا أعرفه. فسروا بذلك، وصاروا إلى عمرو بن علي، فقالوا له: ذاكرنا محمد بن إسماعيل بحديث فلم يعرفه، فقال عمرو بن علي: حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل فليس بحديث»،
قلت: هكذا شهد للبخاري شيوخه بتمام المعرفة في الحديث .

 ( 20 )  يقول حاشد بن إسماعيل: «رأيت إسحق بن راهويه جالسا على المنبر - يعني منبر التحديث - والبخاري جالس معه، وإسحق يحدث، فمر بحديث، فأنكره محمد - يعني البخاري - فرجع إسحق إلى قوله، وقال: يا معشر أصحاب الحديث، انظروا إلى هذا الشاب، واكتبوا عنه، فإنه لو كان في زمان الحسن بن أبي الحسن البصري لاحتاج إليه، لمعرفته بالحديث وفقهه.
قلت: وإسحق بن راهويه أحد أئمة المسلمين ومن شيوخ البخاري .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك