إضاءات سلفية- الـمـــراقـــبــــة
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء: 1)، قال ابن القيّم: المراقبة دوام علم العبد وتيقّنه باطّلاع الحقّ سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه.
عن أبي هريرة- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله- عزّ وجلّ- إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل. فإن عملها أكتبها له بعشر أمثالها، وإذا تحدّث بأن يعمل سيّئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها. وقال رسول الله[: قالت الملائكة ربّ! ذاك عبدك يريد أن يعمل سيّئة «وهو أبصر به» فقال: ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة. فإنّه تركها من جرّاي ( أي: من أجلي) ». متفق عليه.
قال أبو عثمان: قال لي أبو حفص: إذا جلست للنّاس فكن واعظا لنفسك وقلبك، ولا يغرّنّك اجتماعهم عليك فإنّهم يراقبون ظاهرك والله رقيب على باطنك.
قال ابن الجوزيّ- رحمه الله-: الحقّ عزّ وجلّ- أقرب إلى عبده من حبل الوريد. لكنّه عامل العبد معاملة الغائب عنه البعيد منه، فأمر بقصد نيّته، ورفع اليدين إليه، والسّؤال له. فقلوب الجهّال تستشعر البعد، ولذلك تقع منهم المعاصي؛ إذ لو تحقّقت مراقبتهم للحاضر النّاظر لكفّوا الأكفّ عن الخطايا. والمتيقّظون علموا قربه فحضرتهم المراقبة، وكفتهم عن الانبساط.
إذا ما خلوت الدّهر يوما فلا تقل
خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة
ولا أنّ ما تخفيه عنه يغيب
ألـم تر أنّ اليوم أسرع ذاهب
وأنّ غدا للنّاظرين قريب
(57) الابتداع
قال الشّاطبيّ- رحمه الله تعالى-: البدعة: طريقة في الدّين مخترعة تضاهي الشّرعيّة يقصد بالسّلوك عليها المبالغة في التّعبّد لله- سبحانه-.
عن أنس- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الله احتجز التّوبة عن صاحب كلّ بدعة» رواه ابن أبي عاصم في السنة وحسنه الألباني.
وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ»
قال عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه -: «إيّاكم وأصحاب الرّأي، فإنّهم أعداء السّنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرّأي، فضلّوا وأضلّوا».
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «الاقتصاد في السّنّة خير من الاجتهاد في البدعة».
وعن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: «كلّ بدعة ضلالة، وإن رآها النّاس حسنة».
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (آل عمران:106)، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فأهل السّنّة والجماعة وأولو العلم. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فأهل البدع والضّلالة»
وكان مالك كثيرا ما ينشد:
وخير أمور الدّين ما كان سنّة
وشرّ الأمور المحدثات البدائع
قال ابن الماجشون- رحمه الله تعالى-: سمعت مالكا- رحمه الله تعالى- يقول: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أنّ محمّداصلى الله عليه وسلم خان الرّسالة؛ لأنّ الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا».
(58) الحمد
قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (لقمان: 25 - 28).
قال الجرجانيّ: الحمد: هو الثّناء على الجميل من جهة التّعظيم من نعمة وغيرها.
عن سمرة بن جندب- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أحبّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر. لا يضرّك بأيّهنّ بدأت، ... الحديث» رواه مسلم.
عن أنس بن مالك- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشّربة فيحمده عليها» مسلم.
وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله، إلّا كان الّذي أعطاه أفضل ممّا أخذ» رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
وعن معاذ بن أنس- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أكل طعاما فقال: الحمد لله الّذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول منّي ولا قوّة غفر له ما تقدّم من ذنبه» رواه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني.
قال أبو العالية الرّياحيّ- رحمه الله تعالى-: «إنّي لأرجو أن لا يهلك عبد بين اثنتين نعمة يحمد الله عليها وذنب يستغفر منه»
قال الفضيل بن عياض- رحمه الله تعالى-: من عرف نعمة الله بقلبه، وحمده بلسانه لم يستتمّ ذلك حتّى يرى الزّيادة. لقوله تعالى: { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم: 7).
(59) الحوقلة
قال تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ﴿39﴾فَعَسَىٰ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ﴿40﴾أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ﴿41﴾وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا } (الكهف: 39 - 42).
الحوقلة هي قول المسلم: لا حول ولا قوّة إلّا بالله مع اعتقاد لذلك وتصديق به.
والمعنيّ بهذا اللّفظ: إظهار الفقر إلى الله تعالى بطلب المعونة على ما يزاوله من الأمور، وهو حقيقة العبوديّة. وقيل المعنى: لا حول عن معصية الله إلّا بعصمة الله، ولا قوّة على طاعة الله إلّا بمعونة الله.
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر على إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال من معك يا جبرائيل قال هذا محمد فقال له إبراهيم عليه الصلاة والسلام يا محمد مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة. قال وما غراس الجنة قال لا حول ولا قوة إلا بالله. رواه أحمد وصححه الألباني.
وفي الحديث: «ألا أدلك على باب من أبواب الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله» رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
وفي الحديث أيضاً: «يا عبد الله بن قيس! ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة؟: لا حول ولا قوة إلا بالله» . رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» . قال: «لا حول بنا على العمل بالطّاعة إلّا بالله، ولا قوّة لنا على ترك المعصية إلّا بالله».
(60) الذكر
قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الألباب (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ} (آل عمران: 190، 191).
الذكر هو التّخلّص من الغفلة والنّسيان، والذّكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر باللّسان.
قال ابن حجر- رحمه الله تعالى-: والمراد بالذّكر: الإتيان بالألفاظ الّتي ورد التّرغيب في قولها، والإكثار منها، مثل الباقيات الصّالحات.
عن أبي هريرة- رضي الله عنه - أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لهم: «أتحبّون أيّها النّاس أن تجتهدوا في الدّعاء؟». قالوا: نعم يا رسول الله. قال: «قولوا اللهمّ أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» رواه الحاكم في المستدرك وصححه الألباني.
قال ابن القيم: والذّكر عبوديّة القلب واللّسان وهي غير مؤقّتة، بل هم يؤمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كلّ حال قياما وقعودا، وعلى جنوبهم، فكما أنّ الجنّة قيعان، وهو غراسها فكذلك القلوب بور خراب، وهو عمارتها وأساسها.
عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أنّ امرأة من الأنصار، قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه؟، فإنّ لي غلاما نجّارا. قال: «إن شئت» . فعملت له المنبر. فلمّا كان يوم الجمعة قعد النّبي صلى الله عليه وسلم على المنبر الّذي صنع فصاحت النّخلة الّتي كان يخطب عندها حتّى كادت أن تنشقّ، فنزل النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى أخذها فضمّها إليه، فجعلت تئنّ أنين الصّبيّ الّذي يسكّت حتّى استقرّت. قال: «بكت على ما كانت تسمع من الذّكر» رواه البخاري.
قال أبو بكر- رضي الله عنه -: «ذهب الذّاكرون الله بالخير كلّه» قال أبو الدّرداء- رضي الله عنه -: «لكلّ شيء جلاء، وإنّ جلاء القلوب ذكر الله- عزّ وجلّ-»
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : ما عمل العبد عملا أنجى له من عذاب الله، من ذكر الله.
لاتوجد تعليقات