رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف 7 مارس، 2016 0 تعليق

إشكالية الغلو في الجِهاد المعاصِر (1)

إنَّ مِن أصول أهل السُّنَّة والجماعة اعتقادَهم بفرضيَّة الجهاد وبقائِه إلى قيام السَّاعة؛ طلبًا ودفعًا،  وهو من أفضلِ القُرُبات، ومن أعظم الطَّاعات، والآياتُ والأحاديث في فضلِ الجهاد والمجاهدين بالمال والنَّفس، والتحذيرِ من تركه، والإعراضِ عنه، أكثرُ من أن تُحصر، وأشهر من أن تُذكر، لكن مِن المؤسف أنَّ بعضَ من اشتغل بالجهاد صار عنده غُلوٌّ وتجاوز، فكمْ نصَح لهم الناصحون، وتكلَّم المشفِقون، وحذَّر المحذِّرون، لكن ما من مستجيب! وما زال بعضهم يتَّهمون مخالفيهم، بل ناصحيهم، بالجهل والتضليل تارةً، وبالعمالة تارةً أخرى، في سلسلةٍ طويلةٍ من الاتهامات تنبئ عن عدم قَبول النُّصح، الأمر الذي جعَل بعض المناصرين لشعيرة الجهاد يُحجمون عن الردِّ، فتفاقمَ الأمرُ حتى بات السُّكوتُ عن ذلك خيانةً للأمانة التي حمَّلها الله أهلَ العلم؛ {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187).

     وفي هذه الوريقات إشارات ووقفات لبعض الشُّبهات والأطروحات على السَّاحة الجهاديَّة؛ موجَّهة بالدَّرجة الأولى إلى الشَّباب المتحمِّس للجهاد؛ لعلَّ الله أن ينفع بها، وليس الهدفُ منها ذِكرَ مثالب الجهاد والمجاهدين، فباطن الأرضِ خيرٌ من ظاهرها لمَن سوَّلت له نفْسُه ذلك، ولكنَّه النُّصح المحض لهم وللأمَّة، والله على ما أقولُ شهيد. وقبل البَدء، هذه خمسُ إشاراتٍ تُؤسِّسُ لما يأتي من وقفات:

الإشارة الأولى:

عدَمُ حثِّ الشباب على الذَّهاب إلى ساحة الجهاد في بلدٍ ما، لا يَعني تثبيطَهم عنه، ولا تنفيرَهم منه؛ فهناك فرقٌ بين التَّثبيط عن الجِهاد والتنفيرِ منه، وبين عدم الحثِّ عليه، لا سيَّما إذا كان عدَمُ الحثِّ راجعًا إلى مقصدٍ شرعيٍّ.

الإشارة الثانية:

تحذيرُ عالمٍ من العُلماء من الذَّهاب إلى ساحة الجهاد في بلدٍ ما، لا يَعني تحذيرَه من الجِهاد بإطلاق؛ فقد يكون ظهَر له سببٌ دَعاه إلى ذلك.

الإشارة الثالثة:

تحذيرُ عالمٍ من العلماء من الذَّهاب إلى ساحة الجهاد في بلدٍ ما، تحتَ راية فصيلٍ من الفصائل، لا يَعني تحذيرَه من الجهاد تحت راياتٍ أُخرى في ذاك البلد نفْسه؛ فقد يكون ظهَر له غلوُّ هذا الفصيل واعتدالُ غيره.

الإشارة الرابعة:

مسألة كون الجهاد في بلدٍ ما فرضَ عينٍ أو فرضَ كفايةٍ، من المسائل الاجتهاديَّة التي لا يُضلَّل القائلُ فيها بأحد الرأيينِ.

الإشارة الخامسة:

غلوُّ جماعة أو فصيلٍ جهاديٍّ لا يُقاس فقط بما هو مسطَّر في كتُبهم وأدبيَّاتهم، بل لا بدَّ من النَّظر في ممارساتهم العَمليَّة؛ فالعِبرة بالأفعال، لا بالأقوال فقط.

الوقفات

الوقفة الأولى: الموقِف من العُلماء والدُّعاة الربانيِّين

     العلماء الرَّبانيُّون ورَثةُ الأنبياء، وهم مصابيح الهُدى في دياجير الدُّجى، بهم يُرشَد الضالُّ، ويُهدَى الحيران، رفَعهم الله بالعِلم، وزيَّنهم بالحِلْم، وهم الذين أمَر الله بردِّ المتنازَع فيه من الأحكام إليهم،  ومع ذلك فهُم غيرُ معصومين؛ فقد يُخطئ الواحد منهم، والاثنان، والثلاثة، وأكثر، وفي هذه الحالة لا نَقبل منهم خطأهم ولا نتَّبعهم فيه، لكن أن تجتمعَ كلمتُهم، أو جمهورهم في مسألةٍ ما - وقد تكون من النَّوازل -  ثمَّ لا يُكترَثَ لها، ويظلَّ فِئامٌ من الناس لا يُلقون لها بالًا، ولا يستمعون إليهم، ويصرُّون على التعصُّب لأقوال مَن يُوافق مراداتهم، مع تخوينٍ ظاهرٍ لعامَّة أهل العلم؛ فهذا عينُ الحِزبيَّة التي لا نرضاها لشباب هذه الأمَّة. ورأيُ جمهور أهل العلم الصَّادقين النَّاصحين في نازلةٍ من النوازل، لا شكَّ أنَّه الأقربُ للصَّواب، أمَّا اللَّهْث وراء الفتاوى الحماسيَّة العاطفيَّة - التي تفتقِد  إلى كثيرٍ من العِلم والفِقه بالواقع، ومراعاةِ مآلات الأمور، والحِلم والأناة - فهو من الجَهل والتعصُّب الذي ابتُليت به الأمَّة قديمًا وحديثًا.

أسباب الاحتقان

     وممَّا يؤدِّي إلى مِثل هذا الاحتقان والنفرة من مشايخ العِلم والحِكمة - التي ينبغي أن يقِف عندها الشباب وقفةَ إنصافٍ - ما يُردِّدُه بعض المهتمِّين بالجهاد من أنَّ هؤلاء المشايخَ يسعَون لإسقاط رموز الجهاد، ويُسفِّهونهم، ويحقِّرون خِطابهم، وأنَّهم يَسعَون لإسقاط الجهاد نفْسه، وهذا لعمرُ الله افتراءٌ على المشايخ، والأصل: أنَّ العلماء والدُّعاة الربانيِّين يُعظِّمون الجهاد، ويَحفظون لأهله قدْرَهم، لكن ليس معنى ذلك أن يسكُتوا عن غلوٍّ أو أخطاءٍ في اجتهاداتِ بعض المجاهدين؛ فالله قد عاتَب خيرَ هذه الأمَّة - صحابةَ رسوله صلى الله عليه وسلم  ورضِي عنهم وأرضاهم - وهُم في ساحة المعركة، فقال: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران:152)، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : (نزلتْ فينا يومَ أُحُد)؛ فمِن الخطأ أن يُعدَّ الحديث عن أخطاء المجاهدين وغلوِّ بعضِهم إسقاطًا لرموز الجهاد، لكن بعض مَن يردِّد ذلك مع الأسف ينظُر إلى الجهاد نظرةً حزبيَّةً ضيِّقة،؛ فالجهاد عنده هو جهادُ فصيلٍ بعينه، ورموزُ الجهاد هم فلانٌ وفلان؛ فمَن حذَّر من هذا الفصيل أو أخطاءِ بعضِ رموزه، فقد أسقط الجهادَ كلَّه، حتَّى لو دعم الفصائل الأخرى، بل لو شارَك فيها بنفْسه! وهذا من تحجيمِ الجهاد وتقزيمه في فصيلٍ بعينه، وساحاتُ الجهاد لا تتحمَّل مِثلَ هذه الحزبيات؛ {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46)، والعجيبُ أنَّك تجد بعضهم إذا أيَّد أحدُ العلماء أو طلابُ العلم الكبار حركةً جهاديَّةً صادقةً غير حركتهم، أو أثنى عليها، اتَّهموه بالحزبيَّة!

الوقفة الثَّانية: تنزيل أحكام فرْض العين على الواقِع المعاصر

     من مسائل الجِهاد التي تحتاج إلى وقفة تأمُّل: الحُكم بأنَّ الجهاد فرضُ عينٍ في بلد معيَّن، وتضليل مَن لم يقُل بذلك، وتجهيله واتِّهامه؛ فتجدُ بعضَ المجاهدين أو مَن يتبنَّى رؤيتَهم يحشُدُ عشراتِ الأقوال التي تنصُّ على أنَّ العدوَّ إذا داهم بلدًا مسلمًا، وَجَب على أهله الدِّفاعُ عنه، ورفْعُ راية الجهاد ضدَّ العدوِّ، فإنْ لم يستطعْ، فيجب على الأمَّة كلِّها أن تهبَّ لنُصرتهم، وإلَّا أثِموا جميعًا.

     وهذا الحُكم من الناحية العِلميَّة التنظيريَّة صحيح - وإن كان بحاجة إلى تفصيل ليس هذا محلَّه - لكن تطبيقهم له ينقُصه الكثيرُ من الفقه والبصيرة؛ فالمسلمون اليوم في ضَعْفٍ شديد، وأعداءُ الداخل من الليبراليِّين والعلمانيِّين والرافضة يُخطِّطون لتدمير ثوابت الأمَّة قبل أعداء الخارج، وأكثرُ بلاد المسلمين فيها جراحٌ ومآسٍ؛ في فلسطين، والعراق، وسوريا، والصومال، وأفغانستان، وكشمير، والفلبين، وبورما وغيرها، وفي كثيرٍ منها حركاتٌ جهاديَّة؛ فهل يصحُّ أن نقول لجميع الناس: اذهبوا واترُكوا ما أنتم فيه من عِلمٍ وتعليم، ودَعوةٍ، وأمرٍ بمعروف، ونهيٍ عن منكَر، وجهادٍ باللِّسان، ومدافعةٍ للباطل، وتوجَّهوا إلى البلد الفلانيِّ، واتركوا بلدانَكم يعبَث بها العلمانيُّون والتغريبيُّون؟! أيُّ عاقل هذا الذي يدْعو إلى إخلاء بلاد المسلمين من أهل العلم، والآمِرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والذَّابِّين عن حياض الإسلام؟! فضلًا عن أنَّ هذا البلد المنكوب من بلاد المسلمين يُعاني أهلُه من نقصٍ في الطَّعام والشَّراب، والدَّواء، والكِساء، والمسكَن، وقبل ذلك كله يُعاني من نقْص في السِّلاح، ولو ذهبت أعدادٌ كبيرة، لكانت عبئًا عليهم!

وقد يقول قائلٌ: نحن لا ندعو إلى ذَهاب جميع النَّاس، نحن ندعو إلى ذَهاب مجموعةٍ منهم، حتى تحصُل الكفاية.

     فيُقال لهم: وكيف نعرِف حُصولَ الكفاية؟ هبْ أنَّ عشرةً من الكتائب الجهاديَّة أقرَّت بحصول الكِفاية، فسيأتيك مَن يقول: هناك كتائبُ تقول: إنَّها ما زالت بحاجة ولم تحصُل لهم الكِفاية! وهكذا سيقولون لو ذهب عشراتٌ أو مئاتٌ أو آلاف؛ فهل من نهاية لهذا الأمر؟!

وقد يقول قائلهم: الكفاية تحصُل بهزيمة العدوِّ، وفي الحالة السوريَّة بسقوط نِظام الأسد.

فيُقال لهم: فهل حصَلت الكفايةُ في أفغانستان بسقوط الروس؟! وهل حصلت في العراق بخروج الأمريكان؟! وهل أقيمت فيهما دولة الإسلام؟! ويُقال مثل ذلك عن الصُّومال، وغيرها من بلاد المسلمين المنكوبة.

      فهل سنظلُّ نوجب على جميع الناس ونستنفرهم للذهاب للقتال هناك؟! وما يُقال عن الذَّهاب للقتال، يُقال عن العلماء وطلبة العِلم والأطبَّاء وغيرهم، فهل المطلوب أن نستنفر كلَّ هؤلاء؛ ليخرجوا من بلدانهم ويتركوها فريسةً للأعداء، ويذهبوا إلى ساحات القتال؛ هل يقول ذلك عاقلٌ، فضلًا عن عالِم يَفقه الدِّين، ويفقه الواقع؟!

     إنَّ مسائلَ العِلم الكِبار، والمسائل التي تمسُّ الأمَّةَ بعامَّة تحتاج إلى نظرٍ ثاقب، وتمامِ علمٍ وتجرِبة، ولا يتمُّ معالجتها من خلال الحماس، ولا بالنَّظر من زاوية واحدة فحسبُ، دون اعتبار للمآلات. وهذا مردُّه إلى أهل العِلم الصَّادقين الرَّاسخين فيه. ومخالِفُ ذلك لا يضرُّ العلمَ وأهلَه شيئًا، ولكنه يُعرِّض نفسه للمهالك في غير ما سداد؛ إذ يتنكَّب ما أمر الله باتِّباعه من اتِّباع أهل العِلم إلى اتِّباع ما يَهوَى ويشتهي، وإن كان ذلك في بابٍ من أبواب الطاعات، والله المستعان.

فالواجبات تتزاحَم، والكفايةُ لم تحصُل في الجميع، لا في جهاد السِّنان، ولا في جهاد القَلم والبيان، من علمٍ ودعوةٍ واحتساب، فيبقى تقديرُ الأمور بحسب المصالح والمفاسد، ومرجعه إلى أهل العلم الربَّانيين الذين لا يُهمِلون هذا، ولا يهمِّشون ذاك.

وللحديث بقية إن شاء الله.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك