إذا أرسلْت حكيماً فلا توصِهِ
- الإنسان الفطن الكيّس لا يأخذ كلام المتحدث كائنا من كان على عواهنه وإنما عليه أن يزنه بميزان التشريع الإسلامي من ثوابت الدين والمبادئ والأخلاق
من أعقل الأمور في حياة المرء أن يدرك متى يفعل الشيء في وقته المناسب ومتى يتحدث إنْ لزم الأمر في الوقت الملائم، ومع الشخص الذي يستحق في بيئة تحقق المقصود من القول والفعل، ذلك من أجمل الأمور في حياة الإنسان وأكثرها لبابة وفطنة وهدوءا وسلاماً، تلك هي الحكمة بمفهومها الواقعي،فهي مرتبطة بالمنطق والعقل لا بالشعور والإحساس والانفعال.
الحكمة صفة جميلة في شخصية الإنسان لو أوتيها.
الحكمة إما وهبيّة أو كسبيّة، والحكمة تشكّل رونقا وجمالا للعلم، وهي آلة للعمل وداعيا عظيما لتحقيق المقاصد المرجوّة للمرء. ما من شك أنّ كل إنسان يرجو أن لو يرزقه الله -تعالى- الحكمة هبة أو أن يُعينه ليكون حكيما اكتسابا؛ لما في الحكمة من تحقيق لوقايات كبيرة تصدّه عن الوقوع في المشكلات والأزمات والتصادمات مع الناس ؛فالحكمة تحمي المرء من الوقوع فيها ؛ فمعنى أن تكون حكيما فذلك مدعاة لاندفاع العوائق من أمامك لتحقيق مبتغاك وأيضا فهي بمثابة رادارٍ حيوي ومجسّات حقيقية لتبني لك حياة بعيدة عن المخاطر والفشل بأنواعه وأضراره إلا من أمور يسيرة كل البشر معرّضون لها كونهم بشرا مخلوقين غير كاملين، فالحكمة خير ملاذ وملجأ بعد الله -تعالى-، وتستحق أن يتعب المرء على نفسه ويجتهد لينالها اكتساب،ا يضمن له -بإذن ربه- استشراف مستقبله بسلاسة وسلامة.ترجمة الحكمة على أرض الواقع
أعزائي القراء، إنّ ترجمة الحكمة على أرض الواقع تهوّن المصاعب التي يواجهها المرء في يومياته؛ فالحكيم معلوم عنده أنه إذا لم يدرك جميع مطلوبة فإنه سيدرك بعضه، وقد يتنازل عن بعضه الآخر، فالحكمة من لوازمها المرونة والتكيّفية والتأقلم، والحكيم يعي تماما أنه إذا لم يندفع عنه الشر والأذى كلّه فإنه لا أقلّ من أنه سيندفع عنه بعض الشر والأذى، وهكذا الإنسان الحكيم يقف دوما متأملا ومتفكرا فيما يحدث حوله وحول الآخرين؛ ليستشفّ العبرة والاعتبار والخبرات مما يحصل في دنياه ودنيا غيره، متفطّنا متبصّرا مترويّا في إصدار أحكامه تجاه كل ما سيحدث أو حدث حاليا أو حدث بالماضي ليستجلب استثمار أحداث الماضي لوقائع الحاضر والمستقبل.من أراد نوال الحكمة
عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، لا يمكن للمرء أن يجعل من نفسه حكيما ويصطبغ بالحكمة وهو هذّار كثير الهذر مع الناس، ولا يمكن أن يكون حكيما وهو يرمي تجاربه في البحر كما يقولون حتى ينسى الماضي المزعج له بسلبياته دونما تأمل وتفكر للخبرات الناتجة عما مضى، فمن أراد نوال الحكمة فليجتهد أيّما اجتهاد ليتلبّسها تلبّسا صادقا بطلب العلم واستثمار الخبرات الجالبة للتفطن واللبابة والبصيرة حتى أنّ الخليفة عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- يقول: «إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت ويهرب من الناس فاقتربوا منه فإنه يُلقّى الحكمة». حتى إننا لنعجب ما علاقة الخلطة بالناس بفقد نوال الحكمة؟مقام الحكمة والحكماء
هكذا الأولّون يرون مقام الحكمة والحكماء؛ فإنهم يزايلون الناس بنفوسهم مهما خالطوهم بأجسادهم، بل إنهم يهربون من مجالسة عامة الناس إلا من أجل أداء عبادة أو نشر علم أو مناصحة، وإلا فهم مشغولون بأنفسهم إرضاء لله -تعالى-، حتى أن بعض الحكماء قالوا -ناصحين بعضهم بعضا-: «إنّ من أُعطي العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه ولا يتواضع لأهل الدنيا لأجل دنياهم؛ فإنه أُعطي أفضل مما أعطي أصحاب الدنيا؛ لأن الله -تعالى- سمّى الدنيا متاعا قليلا وسُمّي العلم خيرا كثيرا.يؤتي الحكمة من يشاء
أعزائي القرّاء، قال ربنا -تبارك وتعالى-: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (البقرة: 269)، وحينما ضمّ النبي -صلى الله عليه وسلم - الصحابي عبدالله بن عباس - رضي الله عنه - دعا له: «اللهم علّمه الحكمة» أخرجه البخاري.قد يقول الحكمة غير الحكيم
ليس شرطا أن تصدر الحكمة فقط من الحكماء، فرُبّ متحدث بالحكمة ناطق بها لكنه ليس بحكيم ولا يُعرف بالحكمة بين الناس، وقد قالها الصحابي الجليل الخليفة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «لا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه» والصحابي الجليل عبدالله بن عباس - رضي الله عنه - يؤكد ذلك بقوله: «خذوا الحكمة ممن سمعتموها فإنه قد يقول الحكمة غير الحكيم وتكون الرّمية من غير رامٍ».الحكمة ليست على إطلاقها
عزيزتي القارئة، عزيزي القارئ، من الأمور التي تستحق الوقوف عندها، أنّ الحكمة ليست على إطلاقها، طابعها النصح والتوجيه والإرشاد، وإنما لها زاوية أخرى على المرء إتقائها ويتحسّب لها، فيحدثنا الصحابي الجليل معاذ بن جبل - رضي الله عنه محذرا بقوله-: «... وأحذّركم زيغة الحكيم ؛ فإنّ الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. قال: قلت لمعاذ -والسائل ناقل الرواية يزيد بن عَميرةَ-: ما يدريني - رحمك الله- أنّ الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأنّ المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يُقال ما هذه؟! ولا يثنينّك ذلك عنه؛ فإنه لعله أن يراجع، وتلقّ الحق إذا سمعته، فإنّ على الحق نورا»، صحيح أبي داود / صححه الألباني، وهنا ندرك تمام الإدراك أنّ الإنسان الفطن الكيّس المتبصر لا يأخذ كلام المتحدث كائنا من كان على عواهنه، وإنما عليه أن يزنه بميزان التشريع الإسلامي من ثوابت الدين والمبادئ والأخلاق ليميز الخبيث من الكلام والطيب منه.
لاتوجد تعليقات