رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: القاهرة: د. أحمد عبدالحميد 8 فبراير، 2017 0 تعليق

إدارة التوحش.. منهج مختل ونتائج كارثية

جاء الإعلان الرسمي لسقوط دولة الخلافة العثمانية في مطلع القرن العشرين الميلادي ليضع إطارًا ملتهباً مؤلماً لحالة من السقوط والتردي العقدي والسياسي والاجتماعي الذي طال الأمة الإسلامية، واستمر قروناً لتكون تلك اللحظة الصادمة لمن غفل عن الانتقاض التدريجي لعرى الإسلام التي وصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة».

     وبقدر الألم الذي أحدثته هذه الهزة العنيفة إلا أنها أحيت الكثير من المعاني في نفوس المسلمين ولاسيما من يحملون هم الدين وراية الدعوة إلى الله، فانطلقت التحركات شرقاً وغرباً لمواجهة هذه الكارثة، وبعض هذه التحركات كان لها طابع فيه نوع من الشمولية، وبعضها اكتفى بمحاولة استنهاض الأمة وسد الثغرات العقدية والسلوكية بحسب الطاقة من دعوات لإحياء السنة ونشر التراث وتصحيح العقائد ونشر الأخلاق الإسلامية وكفاية المحتاجين.

     وبغض النظر عن اقتراب هذه التحركات أو ابتعادهما عن المنهج النبوي ودرجة التزامها بالشرع إلا أنها في الجملة ساعدت في إيجاد حالة من الصحوة الإسلامية في بلاد المسلمين؛ جرت بها سنة التدافع بين الحق والباطل؛ فعادت كثير من السنن والمعاني التي اندثرت تحت وطأة سعي القوى الغربية في احتلال بلاد المسلمين عسكريا وفكريا ونشر أفكارهم الخبيثة عبر وسائل الإعلام والتعليم وزرع عملائهم في مفاصل الحكم والتأثير في بلاد المسلمين وتقسيم بلاد المسلمين وفق اتفاقية (سايكس بيكو) وزرع الكيان اليهودي الغاصب في أرض فلسطين.

غياب الهدف واشتباه السبل

     صعوبة المشهد وتشابكه وتعجل بعضهم لجني الثمار وعدم مراعاة السنن الشرعية والكونية من جهة، وتسارع خطوات الغرب في تدمير دول الإسلام من جهة أخرى، مع عدم وجود قاعدة منهجية مشتركة بين التحركات المختلفة لإحياء الأمة؛ كل ذلك أدى إلى انحرافات، وانحرافات في الاتجاه المضاد داخل أبناء الحركة الإسلامية فنشأت جماعات إسلامية متعددة ذات أصول فكرية متباينة، مال بعضها إلى التكفير ووصم المجتمعات الإسلامية بالجاهلية واستخدام العنف داخل بلاد المسلمين، ومال بعضهما الآخر إلى المداهنة في ثوابت الشرع تحت ضغط الواقع المؤلم. ونتيجة لقلة العلم الشرعي وتعدد مناهج التغيير وعدم وحدة القيادة؛ وقعت القاعدة الأوسع من أبناء المسلمين من أصحاب العاطفة الدينية في اضطراب شديد زاد الواقع سوءا ومكن لأعداء المسلمين من ضرب هذه التحركات فيما بينهما، بل واندفع بعضها في الانحرافات العقدية والسلوكية إلى الحد الذي نفر عموم المسلمين من هذه المسالك جميعا؛ مما زاد من تشوش الرؤية حول كيفية عودة المسلمين إلى عزهم ودولتهم التي أنار الله بها العالم بعد ظلمته ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهدي خلفائه الراشدين، وتحولت عودة الخلافة الإسلامية في ذاتها إلى هدف في حس الكثير من أبناء الصحوة كما أنها صارت في حس بعضهم خيالاً وأوهاماً لا يمكن تحقيقها، وعلى عادة من تغيب عنهم الأهداف الحقيقية فإنهم يتيهون في السبل الموصلة إلى أهدافهم.

سهام في الهواء بغير اتجاه

     كانت حركة الفنية العسكرية في مصر في بداية السبعينات، ثم اغتيال السادات عام ١٩٨٠ نماذج واضحة جداً للإشكالية السابق بيانها، فمجموعة من الشباب يسكنهم حلم عودة الخلافة من مصر قلب العالم الإسلامي لتكون منطلقاً لعودتها في العالم بأسره، لا يرون طريقاً لتحقيق ذلك إلا ضربة سريعة حاسمة تقلب الموازين وليكن بعدها ما يكون، تخطيط بدائي ساذج وعدم معرفة بموازين القوى وكيف تدار الدول وتتشعب العلاقات الدولية وتأثيراتها، يرون في احتلال المباني والاستيلاء على بعض الأسلحة واغتيال بعض الرموز السياسية بداية لتحقيق الحلم، بل ربما صار هذا عند بعضهم هو الحلم ذاته، هذه الأحلام الصبيانية تصطدم بصخرة الواقع؛ لتتأخر خطوات إعادة الأمة إلى طريقها سنوات عديدة بدلا من تقدمها المنشود، وتقع الصحوة الإسلامية المعتدلة تحت التضييق والحصار الأمني والتشويه الإعلامي، ولا يبقى لدى أصحاب هذا المنهج الأرعن سوى طاقة من الغضب يتم تفريغها في صورة عمليات اغتيال وتفجيرات عشوائية طالت الأطفال والنساء ومن لا ذنب لهم أو جريرة سوء ليزداد الحصار على دعاة الإصلاح ولتضيع العقود من أعمار الشباب أصحاب العاطفة الإسلامية خلف أسوار المعتقلات ولتزداد الصورة قتامة والمستقبل غموضاً والشباب يأساً.

التحولات الفكرية تحت ضغط الواقع

     الباحثون عن نقطة للبداية بعد هذه المحاولات الفاشلة وجدوا في تغيير أرض المعركة طاقة أمل جديدة، وفي تحول تاريخي في محطات الصراع ينتقل الشباب من بلاد المسلمين إلى مواجهة الروس في أفغانستان في السبعينات، مع وجود تعقيدات سياسية وفكرية ظهرت آثارها وثمارها المرة بعد انكسار الروس في أفغانستان، وتحول المعارك جزئياً إلى دول أخرى كالبوسنة والشيشان، ولتلقي هذه التحولات بظلالها على إستراتيجية وتكتيكات أصحاب منهج التغيير العسكري.

     فبدلاً من توجيه الجهاد -في نظرهم-  إلى داخل بلاد المسلمين في مرحلة، يتم تحويله إلى العدو الخارجي في مرحلة جديدة، وبدلاً من تركيز الجهود في بؤر الصراع الملتهبة كأفغانستان التي تم احتلالها من قبل روسيا؛ يتم تحويلها إلى صناعة بؤر ملتهبة جديدة في بلاد الدنيا التي تقع تحت تأثير أمريكا والدول الاستعمارية القديمة كبريطانيا وروسيا، وينعكس ذلك على أدبيات أصحاب هذا الفكر في مؤلفاتهم وتوجيهاتهم الإعلامية لأتباعهم عبر وسائل الإعلام التي انضمت إليها شبكة الإنترنت، التي أعطت مساحة جديدة لأصحاب هذا الفكر الذي كان يتبنى مركزية التنظيم وقواعد الانطلاق؛ فصار يتبنى اللامركزية التنظيمية ويعتمد الولاء للمنهج والفكرة، ويتم شحن الشباب المتعطش لنصرة دينه إلى القيام بعمليات إنهاك ونكاية في بلاد الغرب الساعية في حرب المسلمين فيما عرف في دوائر البحث الغربية باستراتيجية (الذئاب المنفردة) للتغلب على العقبات الأمنية والتنظيمية وعقبة الموارد المالية.

     وهكذا يتحول كل شاب بمفرده أو مجموعة صغيرة إلى هذه الممارسات العشوائية التي أضرت بالمسلمين في بقاع الأرض أيما إضرار وكان منها على سبيل المثال أحداث 11 سبتمبر ٢٠٠١، وتفجيرات لندن ٢٠٠٦ وغيرها؛ ليزداد التضييق على المسلمين في هذه البلاد وغيرها وليتوحد أعداء الإسلام وتزداد شراستهم في حربه تحت مظلة (الحرب على الإرهاب) التي طالت كل بلاد المسلمين وسعت في تفكيك ما بقي متماسكاً من الدول الإسلامية وإضعافها وتفتيتها في استراتيجية جديدة أعلنت عنها (كونداليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية في.. بمصطلح (الفوضى الخلاقة).

إدارة التوحش ومرحلة جديدة

     بعد احتلال العراق في سلسلة الحرب على الإرهاب، ومع المحاولات الحثيثة في تفكيك تنظيم القاعدة والقضاء على رموزه ظهر تحول جديد في فكر واستراتيجية الذئاب المنفردة لتعود مرة أخرى إلى الاتجاه نحو مركزية التنظيم ونقاط الانطلاق، وبظهور تنظيم داعش وإعلان دولة الخلافة الإسلامية المزعومة في الموصل عام ٢٠١٤، ثم دخول سوريا في حلبة الصراع بعد أحداث الثورة السورية عام ٢٠١١ ضد النظام العلوي؛ بدأ يتبلور واقعياً الفكر الذي بدأته القاعدة ثم طورته بعض القيادات الفكرية المجهولة الهوية عبر صفحات الإنترنت وعبرت عنه باستراتيجية (إدارة التوحش) في سلسلة من المقالات باسم مستعار – أبو بكر ناجي- على بعض منتديات الإنترنت، تحولت بعد ذلك إلى كتاب يرسم طريقة جديدة في إدارة الصراع، ويتمثل في السعي الحثيث إلى هدم السلطات المركزية في دول المسلمين وتحويل البلاد إلى حالة من الفوضى والتوحش نتيجة لغياب النظام المركزي لتكون الفرصة سانحة لحملة هذا الفكر من السيطرة على بلاد المسلمين شيئاً فشيئاً، ثم التوحد مع الدولة المركزية المزعومة بإعلان الولاء والتبعية لها، لتبدأ التحركات المنظمة من جماعات صغيرة في بلاد المسلمين في السعي في إنهاك السلطات في دولها وتلعب على وتر النزاعات الطائفية والعقدية لإحداث المزيد من التفكك؛ ثم تعلن هذه الجماعات الصغيرة نفسها كولايات تابعة لتنظيم الدولة الذي ترأسه أبو بكر البغدادي بعد صراع فكري مع القيادات التاريخية للقاعدة كأسامة ابن لادن والظواهري، ولم يتوقف هذا الصراع عند المستوى الفكري بالتراشق في البيانات والمقالات عبر شبكة الإنترنت، بل انتقل إلى الاقتتال الصريح كما وقع بين تنظيم داعش وجبهة النصرة في سوريا التي تعدّ ذراعاً من أذرع القاعدة وتدين لها بالولاء الفكري.

فلسفة التوحش

     تقوم هذه الفلسفة على بث حالة من عدم الأمان والصراع الوحشي في الدول المستهدفة، واستفزاز أمريكا وأعوانها لتبدأ في الانتقام بعمليات أكثر توحشاً، واستغلال هذا التوحش المتبادل في استقطاب الجميع وجلب المزيد من الأتباع والجنود والمتعاطفين، وجر الشعوب إلى الصراع جراً بتثويرهم ضد دولهم من جهة وضد علمائهم ودعاتهم المصلحين من جهة أخرى، وإيجاد ثارات تجاه الأنظمة المحلية والدول الغربية، وجعل من لا يقاتل وينحاز إلى هذه الأفكار المجنونة اختياراً يندمج فيها اضطراراً، وكلما ازدادت شدة المعركة ووطأتها كلما زاد ذلك في الاستقطاب وإشعال الصراع، ولا بأس في سبيل ذلك من أن يتم استهداف المسالمين فيما يعرف في أدبياتهم بعمليات (دفع الثمن) في أماكن متفرقة حول العالم لإيصال رسائل إلى الأعداء أن مصالحهم مكشوفة وسهلة الوصول في كل البلاد، ولا بأس أيضاً من التعاون مع عصابات المجرمين وتجار السلاح وقطاع الطرق بدعوى أنهم أقل شراً من الأنظمة المستبدة.

     ما سبق يفسر لك العمليات التي تتم في بلاد المسلمين والغرب باستهداف محطات المترو وأنابيب البترول والأسواق والمساجد والتجمعات المختلفة من أجل إيجاد بؤر ملتهبة تزيد الصراع توحشاً، ويفسر لك كيف يترقى في صفوف هذه التنظيمات مجموعات من القتلة والمجرمين وأصحاب السوابق والمناهج المنحرفة كالبعثيين في العراق والمستقطبين من أوروبا وشمال إفريقيا ليشكلوا معاً صورة جديدة مشوهة للجماعات الإسلامية يدعي أصحابها أنهم على طريق الخلافة بينما هم في الحقيقة نكبة على أمتنا.

نماذج داعشية

     والأمثلة على ذلك كثيرة أهمها ممارسات داعش الهمجية مثل حرق الكساسبة، وإعدام النصارى المصريين العاملين في ليبيا وكرم القواديس وغيرها، أضف إلى ذلك ما عرف من وحشيات تم ارتكابها في سوريا والعراق بجهل ممن نسبوا أنفسهم إلى العلم الشرعي ونصبوا أنفسهم قضاة على الخلق بغير حق في إطار إيجاد دول بديلة تدير هذا التوحش الذي يبدو أنه يوافق ما عند الكثيرين منهم من تشوهات نفسية وميول إجرامية، وهذه الحوادث ما هي إلا مجرد نماذج لهذا المنهج الذي يتجاوز هدي الأنبياء في التعامل حتى مع المحاربين فضلا عن أصحاب الشبهات أو المستأمنين.

خلاصة الأمر

     إن على الدعاة والعلماء والمصلحين أن يكونوا أكثر التحاماً مع شعوب أمتهم وأكثر التصاقاً بمشكلاتهم وما يعانونه، نشراً لسنة الأنبياء وهديهم، وقيادة للأمة في طريق نهضتها، دعوة إلى الحق ورحمة بالخلق أن يقعوا فريسة لمن يبيع لهم الوهم ويستغل حالة الشتات والتيه والهزيمة النفسية التي لحقت بالمسلمين، وكذلك على حكام المسلمين أن ينتبهوا لهذه المخططات التي تحاك ضد بلادهم والتي لا تتوقف ليل نهار وأن يقدموا لأنفسهم العذر أمام الله في السعي بكل ممكن ومستطاع في نشر الحق ومحاربة أسباب التطرف الحقيقية من البدع والمنكرات، وكذلك السعي في خدمة قضايا المسلمين ووحدة الأمة والترفع عن أسباب تشرذمها ووقوعها فريسة لأطماع أعدائها، حفظ الله بلاد المسلمين من كل مكروه وسوء.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك