رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: علي صالح طمبل 19 أكتوبر، 2015 0 تعليق

إحسان الظن بالنفس..!!

أنا الحمد لله (بصلي وبصوم وبزكي وما بعمل حاجة غلط!)

هكذا قال أحدهم وهو يعدِّد أعماله الصالحة، ويعلن أنه لا يرتكب الكبائر ولا الفواحش - وربما كان يعني الصغائر أيضاً - فكأنه معصوم من الزلل والتقصير!الفرق بيننا وبين سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم- أنهم جمعوا بين الخوف من الله -عز وجل- وبين إحسان العمل، بينما جمعنا نحن بين إحسان الظن بأنفسنا وإساءة العمل، فما أوسع البون وما أبعد الفرق!

     قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه «الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي»: من تأمل أحوال الصحابة -رضي الله عنهم- وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف ونحن جمعنا بين التقصير، بل التفريط والأمن، فهذا الصديق يقول: «وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن» ذكره أحمد عنه، وذُكر عنه أيضاً أنه كان يمسك بلسانه ويقول: «هذا الذي أوردني الموارد» وكان يبكى كثيراً ويقول: «ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا»، وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله -عز وجل-.

     كان الواحد منهم يجتهد في العبادة والأعمال الصالحة، ويُخفي العمل، ويسأل الله القبول والثبات، كما ورد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: «لو علمت أن الله تقبل مني سجدة واحدة أو صدقة درهم لم يكن غائب أحبّ إليَّ من الموت، تدري ممن يتقبل الله «إنما يتقبل الله من المتقين»، أما نحن فنباهي بأعمالنا الصالحة، ونزكي أنفسنا وكأننا أيقنا أن الله تقبل منا، أو أننا أخذنا عهداً منه أن يدخلنا الجنة بغير حساب ولا عذاب! وكأننا أمِنَّا أن يكون شأننا يوم القيامة كما قال تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}(الزمر: 47)، وكأننا ضَمِنَّا حسن الخاتمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فإن الرجل لَيَعْمَلُ بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ ْالكِتَاب فيعمل بعمل أَهْلِ الجنة، فيدخل الجنة؛ وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وبينها إِلَّا ذِرَاع،ٌ فَيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار» رواه البخاري (3332) ومسلم (2643).

كان الواحد من السلف يتخفى بالليل، فيبذل المعروف، ويغيث اللهفان، فهذا علي ابن الحسين -رضي الله عنه- وعن أبيه لما مات وجدوا بظهره أثراً؛ مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل، ووجدوه يعول مائة أهل بيت .

     وكان الواحد فيهم إذا أثنى الناس عليه يقول: «اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ، واجعلني خيراً مما يظنون»، ويقول بعضهم: «والله لو كانت للذنوب رائحة ما قدر على مجالستي أحد»؛ لأنهم يعلمون أن أحدهم إذا مدحه الناس، فإنهم في حقيقة الأمر لا يمدحونه في شخصه، بل يمدحون ستر الله عليه، ولو هتك الله هذا الستر الذي أسبله عليه رحمة منه وفضلاً لافتُضح بين الناس، ولما سلَّم عليه أحد! ورحم الله من قال:

والله لو علِموا قبيح سريرتي

                                          لأبى السلامَ عليّ من يلقاني

ولأعرضوا عني وملّوا صُحبتي

                                          ولبؤتُ بعدَ كرامةٍ بهوانِ

لكنْ سترتَ معايبي ومثالبي

                                          وحَلمتَ عن سقطي وعن طغياني

فلك المحامدُ والمدائحُ كلها

                                          بخواطري وجوارحي ولساني

     وإذا كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : «يا رسول الله علِّمني دعاء أدعو به في صلاتي»، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم : «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي من عندك مغفرة إنك أنت الغفور الرحيم» رواه البخاري (6839)، فإذا كان هذا شأن أبي بكر خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المبشر بالجنة، الذي لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح إيمانه، إذا كان هذا شأنه يقول له النبي صلى الله عليه وسلم : «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً» فمن يأمن على نفسه بعده؟!

     ومكمن الخطورة في اغترار الإنسان بطاعته وإحسانه الظن بنفسه هو أن يتحول هذا الغرور وإحسان الظن بالنفس إلى طغيان، وقد أُمرنا بالاستقامة وفقاً لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دون طغيان أو مجاوزة للحد، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(هود: 112)، قال السعدي في تفسير هذه الآية: «أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ، ومن معه من المؤمنين، أن يستقيموا كما أمروا، فيسلكوا ما شرعه الله من الشرائع، ويعتقدوا ما أخبر الله به من العقائد الصحيحة، ولا يزيغوا عن ذلك يمنة ولا يسرة ، ويدوموا على ذلك، ولا يطغوا بأن يتجاوزوا ما حده الله لهم من الاستقامة»، ويقول ابن القيم -رحمه الله- في كتابه: (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين) (3/ 225): (طغيان المعاصي أسلَمُ عاقبةً مِن طُغيان الطاعات).

     إنها رسالة إلى كل من يحسن الظن بنفسه، ويغترّ بعمله الصالح: أن تواضع لله يرفعك، وأن اخفض جناحك للناس ابتغاء مرضاة الله -جل وعلا ورضوانه-، واسأله الثبات والقبول، واخفِ عملك لعل الله يقبله، وأخلص فيه النية لله وحده، واتَّبع فيه هدي النبيصلى الله عليه وسلم؛ فإن للعمل الصالح شرطين: (الإخلاص والمتابعة)، وادْعُه خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته؛ اقتداء بالأنبياء -عليهم السلام- الذين قال الله -جلَّ وعلا- عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}(الأنبياء: 90).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك