رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عبد المنعم الشحات 27 أكتوبر، 2014 0 تعليق

إثبات توحيد الربوبية والرد على الملاحدة (1)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فمن الأمور المُجمَع عليها بيْن البشر الرغبة الشديدة في معرفة أصل نشأتهم وتكوينهم، وهو إجماع لا يكاد يوجد له أي استثناء، بل حتى أولئك الملاحدة يدل سلوكهم على أن هذه القضية تشغل في تفكيرهم حيزًا ربما يكون أكثر مِن غيرهم، ومِن ثَمَّ اختلفوا في إجاباتهم (الإلحادية) على هذه الحاجة الفطرية.

وثمة إجماع آخر على أن كل الخلق مؤمنهم وكافرهم يقرون مِن حيث المبدأ أن لهم خالقًا، وهذا الإجماع له بعض الاستثناءات النادرة، وهذه الاستثناءات هم مَن يوصفون «بالإلحاد».

     ورغم أن الإلحاد وهو العدول عن الحق، ولاسيما فيما يتعلق بالله -عز وجل- يشمل مَن ينفي وجود الله، ومَن يقر بوجوده ويشرك معه غيره في الربوبية أو الألوهية أو يلحد في معنى أسماء الله وصفاته، إلا أن الإلحاد إذا أُطلق فالمراد به هؤلاء الذين جحدوا وجود الخالق -جلَّ وعلا-.

ولابد هنا مِن التنبيه على أمور عدة:

- الأول: أن نسبة هؤلاء -كانت وما زالت- وفي أوج موجات تصاعدهم نسبة لا تكاد تُذكَر، وأن فظاعة قولهم وفحشه وغرابته هو ما يجعل اعتناق العشرات له أمرًا مثيرًا للدهشة والعجب؛ فضلاً عن اعتناق المئات له (ولا أظن أن العدد يتجاوز ذلك في البلاد الإسلامية وإن كانوا في غيرها قد يبلغون الآلاف أو الملايين!).

- الثاني: أن المسلمين يوقنون أن أعظم ملاحدة التاريخ (فرعون) لم يكن يدين بالإلحاد حقيقة، وهذا بخبر الوحي {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (النمل:14)، وأن هذا اليقين الذي حدث بموجب الوحي في شأن العقيدة الحقيقية لفرعون يوجد معه غلبة ظن بأن معظم حالات الإلحاد هي حالات يبدي فيها الشخص خلاف ما يعتقد، وإنما يُظهِر إلحاده لأسباب مختلفة نتبينها في النقاط الآتية.

- الثالث: أن كثيرًا من الملحدين صُدموا في بعض عقائد الدين الذي اعتنقوه؛ فلجؤوا إلى نفي قضية الدين من جذورها بما فيها قضية الربوبية، وهذا يدل على أن مسألة اصطفاف كل الأديان لمواجهة الإلحاد أمر ليس جديًّا؛ فعلى الرغم من أن عقائد الكفار المقرين بالربوبية أهون شرًّا من عقائد الملاحدة، وأن عقائد المقرين بأصل الرسالات (أهل الكتاب من اليهود والنصارى) هي الأقل شرًّا على الإطلاق من بين عقائد غير المسلمين؛ إلا أننا ينبغي ألا نغفل أن من أهم أسباب الإلحاد ما في هذه الأديان مِن تحريفاتٍ مخالِفة للعقل، بل وللحس أحيانًا (مثل حديث العهد القديم عن الغنم التي تلد غنمًا منقطة إذا أكلت عشبًا على هذه الضفة!).

     ومِن ثَمَّ فمن المهم أن نتحدث عن الإسلام في مواجهة الإلحاد، وليس عن كل مَن صدَّق بوجود الله في مواجهة الإلحاد، لاسيما وأن هذه اللغة قد توهِم أن كل مَن أقر بالربوبية فهو مؤمن؛ بينما الإيمان الشرعي لابد فيه مِن الإيمان بتفرد الله بالربوبية وبالإلهية، والإقرار لمحمد -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة.

- الرابع: أن بعض الملاحدة الذين ارتدوا عن الإسلام إلى الإلحاد يكون لهم شبهات جزئية في بعض العقائد، ومِن أشهرها: القضاء والقدر أو في بعض الحكم التشريعية أو في بعض ما يتسامعونه من مرويات السيرة، وربما نفـَّرهم مِن الإسلام بدع وخرافات ظنوها من الإسلام، وهي ليست منه في شيء. وهذا يقتضي أمورًا:

أ- تنقية الدين مِن البدعة والخرافات التي ليست منه؛ لوجوب رد البدع والمحدثات في ذاتها «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» (متفق عليه)؛ ولأن وجودها يغذي تيار الإلحاد على النحو الذي بيَّـنَّا، ولعلنا ندرك مِن هذا أحد أغراض الغرب في إصراره على بقاء الصوفية بما يحمله تراثها مِن خرافات بوصفها ممثلة -بل وربما ممثلة وحيدة- للإسلام.

ب- على العلماء والدعاة أن يهتموا بإزالة الشبهات في كل جزئية مِن الجزئيات، وعدم ترك الشباب فريسة لهذه الشبهات التي ربما استثمرها شياطين الجن والإنس لإضلال صاحبها إلى أبعد مدى.

ت- على كل مسلم تَعرض له شبهة أن يبحث عن إجابتها مِن عالِمها، ويدعو الله أن يوفقه إلى الإجابة الشافية عليها، وإلى أن يحصل له ذلك؛ فليحذر على نفسه مِن فخاخ الشيطان، وأن يشك في «اليقينيات» عقابًا للمجتمع الذي رفض أن يجيبه عن أسئلته فإنه لا يضر إلا نفسه؛ فإن الله لن يحاسبه على أمور عجز عن معرفتها، ولكن سيحاسبه على حق علمه ثم جحده «وأعظمه إثبات وجود الرب الخالق -جلَّ وعلا-».

- الخامس: أن معظم مَن يلجؤون للإلحاد يلجؤون إليه فرارًا من ربقة الالتزام بالشرائع، ولذلك تجد أن معظم المجموعات الإلحادية تروِّج لنفسها عن طريق الفواحش أكثر من الترويج عن طريق الفكرة، ومع هذا فلن يعدم مَن انضم إلى هذه الأفكار بعض الشبهات، والتي لابد من إزالتها والجواب عنها؛  فضلا عن العلاج من الشهوات التي هي المصيدة الرئيسية لكثير منهم.

تضافر الأدلة على إثبات وجود الله -عز وجل-:

     وهذا الإجماع الذي أشرنا إليه حاصل لأسباب: أهمها تضافر الأدلة على إثبات وجود الله -عز وجل-، وهذه الأدلة تشمل جميع أنواع الأدلة «العقلية والنقلية»، ولكن لابد هنا أن نشير إلى أنه غلب علينا الحديث عن ثنائية العقل والنقل في حين أن الحديث عن العقل يضم في طياته الحديث عن مصادر أخرى نحتاج إليها بشدة عند الحديث عن إثبات وجود الله -عز وجل-، وهي: «الفطرة، والحس»؛ فحصل بذلك تضافر الأدلة مِن: «الوحي - والفطرة - والعقل - والحس».

1- دلالة الوحي:

     وهي دلالة قد يُعترض عليها بأنها لا تصلح للاحتجاج على منكِر الربوبية مِن جهة أنهم لا يقرون بالوحي، ومع هذا فهي صالحة لذلك إذا اعتبرنا أدلة صدق الأنبياء، وأنها متى ثبتت دلت على صحة جميع ما أتوا به، ومِن ثَمَّ يمكن أن تكون الموضوعات التالية هي حجج في باب إثبات وجود الله -عز وجل-.

أ- دلائل النبوة.

ب- إعجاز القرآن.

ت- حاجة البشرية للإيمان باليوم الآخر.

ث- حاجة البشرية إلى تشريع، وإلى منظومة أخلاق.

- كما أن الوحي قد أورد على الملاحدة أدلة مِن: «الفطرة، والعقل، والحس»، ويكون الاحتجاج عليهم بها بمقتضى كونها أدلة فطرية أو عقلية أو حسية.

2- دلالة الفطرة على وجود الله -عز وجل-:

      قدَّمنا أن الحديث على الفطرة غالبًا ما يأتي في ثنايا الحديث عن العقل فضلا عن أن الاتجاهات العقلانية المحضة لا تعرِّج كثيرًا على الفطرة أو تنفي وجودها حتى نازع في وجودها بعض رموز علم الكلام مِن المسلمين، مع أن الفطرة سابقة على العقل وبدونها لا يمكن أن يصبح العقل حجة، فإن الأمور التي يسميها البعض بالبديهيات العقلية مثل أن الكل أكبر من الجزء هي في الواقع مستند للنظر العقلي وليس نتيجة له، وهي جزء من الفطرة التي تجعل الطفل الرضيع يتلمظ طلبًا للثدي، وتجعل الطير يرقد على البيض إلى غير ذلك من المظاهر التي سوف يأتي الكلام عنها لاحقًا -إن شاء الله-.

    وفي قضيتنا هذه لابد مِن التعويل الكبير على الفطرة؛ حيث إن هذه هي القضية الأم والبديهية الأولى في نفس كل أحد؛ ولذلك جاء الوحي بالإرشاد ببديهية ما يتعلق بالإيمان بالله -تعالى-، فقال الله -عز وجل-: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (إبراهيم:10)، وهو يشمل عدم الشك في استحقاقه للعبادة، ويتضمن بطريق الأولى عدم الشك في ربوبيته.

وبيَّن أن مِن أدلة صدق هذه البديهة «الفطرة»، فقال: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم:30).

     ومعنى عدم تبديلها يشمل معانٍ عدة، منها: أنه لا يستطيع أحد -حتى إن تغيرت فطرته- أن يبدلها بالكلية، وأن يكتم كل آثارها، بل تبقى دائمًا ملحة عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم  في بيان أن الفطرة قد تتغير: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» (متفق عليه)، ولكن هذا ليس تبديلاً كاملاً، بل تبقى الفطرة -كما ذكرنا- كامنة ملحة على صاحبها.

     ومِن المواطن التي تَظهر فيها تلك الفطرة: «الشدائد»؛ حيث تغيب الترتيبات المصطنعة المنمقة، وتتعامل النفس على سجيتها، قال الله -تعالى-: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا} (الإسراء:67).

     ونحن نأخذ من هذا الطرح القرآني أننا -معشر المؤمنين بالقرآن- علينا أن نتلو هذه الآيات على الملاحدة «وإن لم يكونوا قد آمنوا بالوحي»؛ ليتدبروا في أنفسهم، ويروا هل يحصل ذلك منهم؛ فيعلموا أن خالقهم قد فطرهم على معرفته؟ أم لا فيستمروا في غيهم؟! وسوف يأتي لهذه القضية مزيد بيانٍ في مقالات لاحقة -بإذن الله-.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك