رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عبد المنعم الشحات 3 نوفمبر، 2014 0 تعليق

إثبات توحيد الربوبية والرد على الملاحدة (2)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد.فمن الأمور المُجمَع عليها بيْن البشر الرغبة الشديدة في معرفة أصل نشأتهم وتكوينهم، وهو إجماع لا يكاد يوجد له أي استثناء، بل حتى أولئك الملاحدة يدل سلوكهم على أن هذه القضية تشغل في تفكيرهم حيزًا ربما يكون أكثر مِن غيرهم، ومِن ثَمَّ اختلفوا في إجاباتهم (الإلحادية) على هذه الحاجة الفطرية.

وثمة إجماع آخر على أن كل الخلق مؤمنهم وكافرهم يقرون مِن حيث المبدأ أن لهم خالقًا، وهذا الإجماع له بعض الاستثناءات النادرة، وهذه الاستثناءات هم مَن يوصفون (بالإلحاد).

     ورغم أن الإلحاد وهو العدول عن الحق، لا سيما فيما يتعلق بالله -عز وجل- يشمل مَن ينفي وجود الله، ومَن يقر بوجوده ويشرك معه غيره في الربوبية أو الألوهية أو يلحد في معنى أسماء الله وصفاته؛ إلا أن الإلحاد إذا أُطلق فالمراد به هؤلاء الذين جحدوا وجود الخالق -جلَّ وعلا-، واستكمالا للأدلة على إثبات وجود الله -عز وجل- نتكلم اليوم على الدليل الثالث وهو دلالة العقل.

3- دلالة العقل:

استعمال دلالة الفطرة في إثبات وجود الله -عز وجل- أفضل وأوضح وأعلى شأنًا، فإنه يجعله من الضروريات، بل مِن البديهيات -وهو كذلك-، ومع هذا يصر الكثيرون على أن يلجوا باب الأدلة العقلية على وجود الله، وهو أمر لا بأس به إذا كان هذا لا يخل بمنزلة دليل الفطرة.

وقد أشار الوحي إلى هذا النوع مِن الاستدلال بقوله -تعالى-: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (الطور:35).

وهي جملة وجيزة بليغة دارت حولها آلاف الجمل والكلمات مِن الفلاسفة والمتكلمين مِن جميع الأمم ليقدِّموا براهين على ما أسموه علة كل شيء، أو وصفوه بأنه واجب الوجود إلى غير ذلك من الفذلكات التي يصمم بعضهم ألا يؤمن إلا بها!

وهذا الكلام فيه حق وباطل، ولكن الخطر الأكبر أن نظن أن هذا هو الدليل الوحيد، فمن عجز عن فهمه أو شعر أن فيه شيئًا من الغموض لا يليق بقضية مصيرية كهذه الكفَر بأصل القضية، وهذا للأسف أحد أبواب الإلحاد، فينبغي أن يُنتبه لذلك.

4- دلالة الحس:

     وهذه الدلالة غير ممكنة في حق الله -تعالى- بصورة مباشرة، ولكن لابد فيها مِن شيء من النظر العقلي فيكون إدراك الخلق بالحواس، ثم الاستدلال بما فيه مِن إتقان وتنوع على الخالق -عز وجل-، وهو نوع أكثر القرآن مِن استعماله، ومنه قوله -تعالى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53).

وهو ما عبَّر عنه الأعرابي بلغته، فقال: «البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج... ألا تدل على العليم الخبير؟!».

وقد عبَّر عنه المئات مِن علماء العلوم الطبيعية المعاصرين، ومنهم مَن أسلم، ومنهم مَن اكتفى بإثبات الربوبية كما سيأتي شيء من هذا -بإذن الله-.

بيْن العلوم التجريبية والعلوم العقلية:

     اعتمدت أوروبا مدة كبيرة مِن تاريخها على العقل القائم على البديهيات العقلية، وعلى الحس المباشر، واعتمدت مدة على الوحي، واعتمدت مدة ثالثة على العلوم التجريبية التي تقوم على المشاهدات الحسية الموضوعية وإجراء التجارب المعملية عليها، وإعمال العقل في ربط الأشياء ببعضها، وهي المرحلة التي حققت فيها أوربا الطفرة الكبرى في اكتشاف نواميس الكون واستثمارها، فظن الأوربيون أن هذا يمثِّل انتصارًا للعلم التجريبي، وأنه يجب ألا يؤمنوا إلا لما صدر عنه!

وهنا لابد من وقفات عدة: الأولى: تبقى الفطرة دائمًا فوق جميع هذه المناهج وه أصل لها.

- الثانية: لا يمكن تجاوز المنهج العقلي؛ وإلا لأدى ذلك إلى اضطراب العالم، واقتصار الفلاسفة على ملاحظاتهم السطحية عيب فيهم، وليس عيبًا للعقل الذي تدل (الفطرة) على أنه أصدق ميزان للأمور (بعدها).

- الثالثة: الوحي يحتاج إلى الفطرة والعقل لتمييز صدق أو كذب مَن يدعي الوحي، ثم متى ثبت بهما صدقُ أحدٍ في أن الوحي ينزل عليه؛ صار هذا الوحي هو أعلى طرائق الإثبات وأفضلها، وآفة الأوربيين أنهم لم يستعملوا فطرهم وعقولهم في قضية معرفة صدق مَن يدعي الوحي؛ فصدقوا (دعوى الإلهام للقساوسة، وكتبة السيِّر الذين رفعوا كتبهم إلى منزلة الإنجيل المنزَّل مِن عند الله!).

- الرابعة: نجاح العلوم التجريبية لا يعني صلاحياتها لبحث كل شيء، وإنكار الأمور التي لا تثبت بها حتى ولو كانت ثابتة بما هو أعلى منها كقضية الربوبية الثابتة بالفطرة والعقل، بل وبالحس -كما بيَّـنَّا، ولا يُعترض على هذا بأن قضية الربوبية لم تثبت بالحس المباشر، بل كانت بطريق إدراك الآثار؛ فإن كثيرًا مِن العلوم التجريبية قائمة على هذا، ومن أهمها: الجاذبية والمغناطيسية والكهربية التي عليها مدار الحضارة الحديثة، وكل هذه الأمور شواهد لكل منها آثار مادية ملموسة فاستدل بها عليها، وإن كانت الظاهرة ذاتها غير خاضعة للحواس.

الفطرة بين إقامة الحجة والإفحام:

قدَّمنا أن الأدلة قد تضافرت على إثبات قضية الربوبية مِن الفطرة والعقل والحس (والوحي مرشد لنا إلى ذلك كله)، وأن دليل الفطرة هو آكدها وأعلاها وأوضحها، ولكن وإذا كان دليل الفطرة بهذه الدرجة من الوضوح والسلاسة والإقناع؛ فلماذا إذاً يُعرِض عنه معظم المشتغلين في الرد على الملاحدة؟!

     الواقع أن مَن يطلب إفحام الخصم فلا يكاد يوجد دليل غير الدليل العقلي الذي يسير بصاحبه إما إلى الإذعان أو مخالفة القطعيات العقلية، وهي طريق أغرتْ كل مناظر أن يبحث عنها مهما كانت وعرة؛ حيث يمكن للمخالِف إذا احتججتَ عليه بالفطرة أو حتى بالحس المجرد أن يكابر ويعاند كما فعل (فرعون)، وكما في المثل القائل: «عنز ولو طارت!»، ولكن مَن يطلب هداية الناس لا يطلب إفحامهم في المقام الأول بقدر ما يقصد إيضاح الحق لهم حتى إن كابروا وعاندوا بعد ذلك، وهذا مما يوجب علينا أن نسلك هذا الطريق في دعوة هؤلاء القوم.

خاتمة:

مما سبق يتبين لك أن أكثر الأمثلة انطباقًا على حال الملاحدة قول القائل:

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ

                                   والماء فـوق ظـهـورها محـمـولُ

     فالفطرة ما زالت داخلهم لم يقدروا على طمسها، ويبحثون عن شيء يسكتونها به؛ فتارة يلجؤون إلى السكوت التام و(اللا أدرية) فلا يطيقون؛ فيهربون منها إلى دعوى الصدفة! ثم يخجلون فيفرون مِن كل هذه الدلائل الفطرية والعقلية إلى افتراضات (داروين) زاعمين أن هذا مِن باب العلم التجريبي، وهو لا يستند إلى حس أو عقل أو تجربة كما سنبيِّن.

     وإذا كان حال هؤلاء كتلك العيس البائسة؛ فالعجب ممن يأتيه هؤلاء البؤساء وهو على نهر جارٍ فيخبرونه بخططهم في البحث عن الماء، وسرابهم الذي يتجارى بهم في كل وادٍ فأراد أن يقيم الحجة عليهم، فقام معهم في متاهاتهم وبيدائهم وسرابهم! والواجب عليه أن يصر على أن الذي أمامهم هو النهر الذي تراه أعينهم وتعتبر بآثاره عقولهم، وبعد أن يبيِّن لهم ذلك؛ فإن لم يقتنعوا فإن شاء أن يُعرِض عنهم؛ فله ذلك، وإن شاء أن يقوم معهم فيبين لهم أن ما يبحثون عنه هو السراب بعينه؛ فهو أحسن.

ولذلك فعلى كل مَن يريد أن يواجِه الإلحاد أن يقرر الفطرة السوية في إثبات الخالق، ثم يستدل على وجوده بأنواع الحجج العقلية، ولاسيما تلك التي استعملها القرآن، ثم يطوِّف بهم في النفس والآفاق، ثم ومِن باب التنزل في المناقشة يأتي على نظريات (داروين) وغيرها بالنقض.

وعكس هذا الترتيب ينزِّل المسألة مِن درجة القطعيات إلى درجة وجهات النظر، وهو عين ما يريده الملاحدة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك