رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عبد المنعم الشحات 18 نوفمبر، 2014 0 تعليق

إثبات توحيد الربوبية والرد على الملاحدة (3) دلالـة الوحـي علـى إثبـات الخـالـق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد بيـَّنَّا في المقالة السابقة أن أدلة وجود الله -عز وجل- متنوعة، ومنها ما يرجع إلى النقل، وعلى الرغم مِن إنكار الملاحدة للوحي فقد قدَّمنا أن الوحي يصلح حجة على منكره، وذلك من جهتين:

- الأولى: أن استعمال الحجج العقلية الواردة في القرآن لا يختص بالمؤمن به فقط، وفي قضيتنا هذه عندما تتلو على ملحد قوله -تعالى-: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (الطور:35)، فأنت في واقع الأمر تستعمل تلك الحجة العقلية في المناقشة بغض النظر عن المصدر الذي أخذتَ منه هذه الحجة، نعم سيكون هناك أثر يتجاوز إقامة حجة عقلية مجردة حال الاقتناع، بل غالبًا ما سيمثـِّل اشتمال الوحي على مثل هذه الحجج العقلية الملزمة شاهدًا لدى المتلقي على صدق ذلك الوحي.

- الثاني: أننا في كل قضية أثبتها الوحي يمكننا أن نُلزِم الخصمَ بسماع الدعوى والبرهان العقليين بخصوص صدق الوحي على اعتبار أنه متى ثبتت صحة الوحي (عقلاً) لزم (عقلاً) ثبوت كل ما في هذا الوحي.

ووفق هذه الطريقة الثانية يمكن أن تتصدر موضوعات، مثل: «دلائل النبوة، وإعجاز القرآن بكل صوره البلاغية والتشريعية، ودلائل عظمته...» مناقشتَنا مع الملاحدة شاؤوا أم أبوا.

     وكما أسلفنا فإن مسألة إفحام الخصم لا ينبغي أن تكون هي الهدف الرئيسي مِن مثل هذه المناقشات، وإنما المطلوب هداية الحق بالفعل وتحصين مَن يتعرض للشبهات؛ فعلى طالب الحق أن يستجيب للحوار في أي برهان تعرضه، ومِن ثَمَّ فإن إقامة البرهان على صدق الوحي في كل ما جاء به هي أقصر طريق للإجابة عن كل التساؤلات التي تشغل بال الإنسان عن وجوده وعن مصيره.

وإذا كان هؤلاء يشغلوننا بنظرية (داروين) وغيرها مما هو إلى الأساطير أقرب منها إلى أن تكون حتى محاولة تفسير جادة؛ فلا أقل مِن أن ينصتوا -لو أرادوا الإنصاف- ويسمعوا للبرهان مهما بدا في نظرهم طويلاً أو غير مباشر.

خصوصيتان لقضية الوحي في الشريعة الإسلامية:

وقد سبق أن قدَّمنا خطورة التعامل في قضية الإلحاد على أننا نتحدث عن جميع الأديان (وربما توسع البعض فقال: «المؤمنون» يعني بوجود الله -عز وجل-! مع أنهم لا يستحقون وصف الإيمان الشرعي بمجرد الإقرار بالربوبية، بل لابد معه بالإقرار والتسليم بالألوهية، وبرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -).

     ومصدر الخطر: أن هذه الأديان تتضمن أمورًا هي بذاتها أحد أسباب فتنة الإلحاد، ولكنَّ ثمة أمورًا يمكن أن يَشترك في الاستدلال بها على وجود الله -عز وجل- كل مَن يؤمن بوجوده، مثل: «الاستدلال بإتقان الخلق على وجود الخالق»، ولكن فيما يتعلق بقضية الوحي على وجه الخصوص لابد مِن الكلام على الإسلام «وفقط».

حيث يتميز دليل (الوحي) عند المسلمين بخاصيتين مهمتين:

- الأولى: أنه لا يوجد مِن بيْن الكتب السماوية ما هو وحي خالص من عند الله لا يشوبه شائبة إلا القرآن، وأن الكتب التي بين أيدي أهل الكتاب اليوم لن تصمد أمام برهان أنها من عند الله؛ لما فيها من التناقض والاضطراب.

- الثانية: وهي فرع على الأولى أن دعاة النصرانية اُضطروا أمام غموض عدد مِن قضايا العقيدة عندهم ومناقضتها للمعقول «وعلى رأسها: الصلب والفداء والتثليث» إلى استعمال سلاح التسليم الإيماني في الرد على أي تساؤل في هذه الأبواب؛ مما رسَّخ مفهوم «تعارض العقل والنقل» أو تعارض «العقل والوحي» حتى إن هذا المفهوم قد تسرب إلى الكثير مِن المنتسبين إلى الإسلام، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن يرتدي ثوب الإيمان في حياته العامة ثم يرتدي ثوب الزندقة والإلحاد إذا خاض في مثل هذه الفلسفات.

ولابد هاهنا من التأكيد على الأمور الآتية:

أ- مبدأ الإيمان بوجود الله ووحدانيته، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن القرآن وحي مِن عند الله قضايا قام الدليل عليها مِن الفطرة والعقل، وقد أرشد القرآن إلى أحد أهم الاختبارات التي تُجرَى للكلام المنسوب إلى الله -عز وجل- ليُعلم: هل صحت نسبته أم لا؟ فقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء:82)، فدعوة المسلم لغيره أن يعتقد أن هذا القرآن وحيٌ مِن عند الله ليست قائمة على مطالبة ذلك الغير بالتسليم تقليدا أو تبعًا لتسليم غيره، وإنما هي دعوة للتسليم لمقتضى العقل والفطرة.

ب- إن استناد بعض القضايا الإيمانية على دليل الفطرة ليس معناه أن مطالبة مَن تغيرت عنده هذه الفطرة بالرجوع إليها تعني إلزامه بنظر غيره؛ فإن إلزامه بما يجده كل الخلق في قلوبهم مِن الإقرار بوجود الله يُشبِه إلزام مَن أفسدته السفسطة أن يعود إلى اعتقاد أن الكل أكبر مِن الجزء وغيرها من البديهيات العقلية أو الفطرية -وهو ما سيتم مناقشته عند مناقشة دلالة الفطرة بإذن الله تعالى-.

ج- مما سبق نعلم أن الإسلام استَعمل في إثبات صحة مصادره أدلة فطرية وعقلية، وأن التسليم للوحي بعد ذلك يأتي كفرع على إثبات صحة الوحي، فإن العقل والفطرة أيضًا يلزمان بهذا التسليم، وهذا الأمر يختلف تمامًا عن دائرة التسليم المفرغة التي يدور فيها دعاة النصرانية ويستثمرها دعاة الإلحاد في الترويج لإلحادهم.

د- ولا يقتصر الأمر على أن التسليم للوحي يأتي في الإسلام فرعًا على إثبات صحة الوحي ذاته بأدلة فطرية أو عقلية، بل أيضًا ومِن باب: أن الأدلة الصحيحة في ذاتها لا يمكن أن تتعارض، فإن المسْلم يلتزم مِن حيث المبدأ أن الوحي (الثابت) والشرع (الصحيح) لا يمكن أن يأتي بما يعارض العقل ويطالبك بالتسليم له، وهي القضية التي خصص شيخ الإسلام لها جزءًا كبيرًا من حياته، وله فيها مؤلف كبير بعنوان: «درء تعارض العقل والنقل»، وهي قضية في غاية الأهمية فيما يتعلق بمعالجة موضوع الإلحاد؛ لأن دعوى احتواء الأديان على خرافات تناقض العقول تعد البوابة الكبرى التي يدخل منها الإلحاد، وهي قضية تنطبق على عامة كل هذه الأديان عدا الإسلام بفضل الله -تعالى-.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك