رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: علاء إبراهيم عبدالحميد 26 يوليو، 2018 0 تعليق

إبطال دعوى وقوع السلف في التأويل الفاسد (2)

من المعلوم أن إثبات المذاهب عمومًا -في قضية ما، أو مسألة معينة- لا يكون بتتبع الأقوال الشاذة والغريبة – على فرض ثبوتها- وإنما يكون بتوارد الأقوال وتتابعها في طريق مَهْيَع، وسبيل واضح، ونهج مستقيم، ومع وضوح هذا المسلك في إثبات مذاهب العلماء؛ فإن بعض المنتسبين إلى المذهب الأشعري يحاولون تقوية طريقتهم في تأويل صفات الله -تعالى- وصرفها عن ظاهرها وحقيقتها؛ بادعاء وقوع بعض علماء السلف -فيما يطلقون عليه- تأويلًا، وقد تكلمنا في الحلقة الماضية عن منهج السلف في صفات الله -تعالى-، وعن الصفات الواردة في القرآن والسنة، ثم تحدثنا عن الشبهة التي أوقعت بعضهم في تلك المخالفات، وأودت ببعضهم؛ فادعى وقوع بعض السلف في التأويل الفاسد لصفات الله -تعالى-، واليوم نتكلم عن الرد التفصيلي على دعوى وقوع السلف في التأويل.

     لما أيس الأشاعرة من تأصيل مذهبهم بالنقول عن السلف؛ وأدركوا بُعد الصحابة وتابعيهم عن مسلك التأويل والتفويض، حتى شاعت عنهم مقولة: «مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم»، وهي مقولة فاسدة، غير صحيحة مبنًى ومعنًى؛ إذ الوصف بالسلامة يقتضي العلم والحكمة، فمذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، أخذوا في البحث عمَّا يقوي مذهبهم بالتأويل، ولو كان باطلًا، وبطلانه من وجهين: إما ضعف في النقل، أو خطأ في الفهم.

الضعف في النقل

- أولًا: رد شبهاتهم من جهة الضعف في النقل: زعم بعض الأشاعرة أن التأويل ثابت عن بعض السلف، معتمدين في ذلك على روايات ضعيفة غير ثابتة، وقديمًا قالوا: «ثبِّت العرش ثم أدر النَّقش»، والمعنى: أنَّى لحكم أن يصح ومستنده ودليله ضعيف لا يثبت؟! وفيما يلي شبهاتهم التي اعتمدوا عليها، متبوعة بالرد عليها بما يناسب المقام(1):

شبهة: تأويل ابن عباس للكرسي

ادعوا أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما تأوَّل قوله -تعالى-: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} (البقرة: 255)، فقال: «كرسيه: علمه»(2).

والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:

الوجه الأول

     إن هذا الأثر ضعيف، لا يثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وقد ضعفه جمع غفير من أهل العلم، وإليك بعض أقواله: يقول أبو سعيد الدارمي (ت 280 هـ) في «نقض المريسي»: «إنه من رواية جعفر الأحمر، وليس جعفر ممن يعتمد على روايته؛ إذ قد خالفه الرواة الثقات المتقنون»(3).

     ويقول ابن منده (ت 395 هـ) في «الرد على الجهمية»: «لم يتابع عليه جعفر، وليس هو بالقوي في سعيد بن جبير»(4). ثم أورد رواية أخرى من طريق نهشل عن الضحاك عن ابن عباس بمثلها، وقال: «وهذا خبر لا يثبت؛ لأن الضحاك لم يسمع من ابن عباس، نهشل متروك»(5).

ويقول أبو منصور الأزهري (ت 370 هـ) في (تهذيب اللغة): «والذي روي عن ابن عباس في الكرسي أنه العلم، فليس مما يثبته أهل المعرفة بالأخبار»(6).

ويقول الذهبي (ت 748 هـ) في (العلو للعلي الغفار): «فهذا جاء من طريق جعفر الأحمر: لين، وقال ابن الأنباري: إنما يروى هذا بإسناد مطعون فيه»(7).

     ويقول ابن أبي العز الحنفي (ت 792 هـ): «وقيل: كرسيه: علمه، وينسب إلى ابن عباس، والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة، كما تقدم «يعني: قوله: الكرسي موضع القدمين، وسيأتي تخريجه»، ومن قال غير ذلك فليس له دليل إلا مجرد الظن، والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم، كما قيل في العرش»(8).

الوجه الثاني

     على فرض التسليم – جدلًا – بقبوله؛ فإن من المقرر عند المحدثين: «أن الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين علله»، وبجمع أقوال ابن عباس في تفسير الكرسي؛ فإن هذا الأثر يعارض الرواية الصحيحة عن ابن عباس أنه قال: «الكرسي: موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره»(9). قال أبو منصور الأزهري: «وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها»(10).

الوجه الثالث

     إن هذا الأثر معارض -على فرض صحته- بما صح مرفوعًا؛ فعن أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ»(11). والعبرة بما صح مسندًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

شبهة تأويل الإمام مالك لحديث النزول

ادعوا أن التأويل ثابت عن الإمام مالك -رحمه الله- في حديث النزول(12)؛ وذلك فيما رواه حبيب بن أبي حبيب قال: حدثني مالك قال: «يتنزل ربنا -تبارك وتعالى- أمره، فأما هو فدائم لا يزول»(13).

يجاب عن هذه الشبهة من وجهين: هذه شبهة واهية لا عماد لها، وتضعيفها من وجهين: من جهة السند، ومن جهة المتن.

- أولًا: ضعف الشبهة من جهة السند: هذا الأثر منكر لا يثبت؛ وقد جاء من طريقين ضعيفين عن مالك؛ أحدهما فيه كذاب، والآخر مجهول، وقد أجمل شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية هذا بقوله: «هذا من رواية حبيب كاتبه وهو كذاب باتفاقهم، وقد رويت من وجه آخر لكن الإسناد مجهول»(14). وإليك بيان القول في الطريقين تفصيلًا:

الطريق الأول

- فأما الطريق الأول: حبيب بن أبي حبيب عن مالك به: هذا الطريق غير صحيح؛ لأنها من رواية حبيب بين أبي حبيب -كاتب مالك- وهو كذاب متروك الحديث، وفيما يأتي أقوال أهل العلم فيه:

يقول عبد الله بن الإمام أحمد: «سمعت أبي وذكر حبيبا الذي قرأ على مالك بن أنس، فقال: ليس بثقة، كان حبيب يحيل الحديث ويكذب، وأثنى عليه شرًّا وسوءًا»(15).

ويقول أبو داود – في حبيب هذا -: «كان من أكذب الناس» (16).

ويقول النسائي: «حبيب كاتب مالك متروك الحديث، وحبيب هذا أحاديثه كلها موضوعة عن مالك وعن غيره» (17).

وقال أبو حاتم الرازي وأبو الفتح الأزدي فيه: «متروك الحديث»(18).

وقال ابن حبان فيه: «كان يورق بالمدينة على الشيوخ، ويروي عن الثقات الموضوعات، كان يدخل عليهم ما ليس من حديثهم...»(19).

وقال ابن عدي فيه: «كاتب مالك بن أنس يضع الحديث» (20). وقال فيه أيضًا: «وعامة حديث حبيب موضوع المتن، مقلوب الإسناد، ولا يحتشم حبيب في وضع الحدث على الثقات، وأمره بيِّنٌ في الكذابين» (21).

فهل مَن هذه حاله تُقبل روايته؟! ثم إن الظاهر أن هذا القول لحبيب نفسه، وليس للإمام مالك؛ لذا نسبه الحافظ ابن عبد البر إلى حبيب ولم ينسبه إلى مالك؛ فقال: «وروى ذلك عن حبيب – كاتب مالك – وغيره، وأنكره منهم آخرون»(22).

الطريق الثاني

- وأما الطريق الثاني: جامع بن سوادة عن مالك به: هذا الطريق أيضًا لا يصح؛ لأنه من رواية جامع بن سوادة، وهو مجهول، اتُّهِم بالوضع، وفيما يلي أقوال العلماء فيه:

روى له الدارقطني حديثًا في «غرائب مالك»، وقال عقبه: «جامع ضعيف» (23).

واتَّهمه الذهبي بالوضع، فقال: «جامع بن سوادة عن آدم بن أبي إياس بخبر كذب في الجمع بين الزوجين، كأنه وضعه» (24).

وقال ابن الجوزي – عقب حديث له -: «هذا حديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم  -، وجامع بن سوادة مجهول» (25).

ثانيًا: ضعف الشبهة من جهة المتن

     هذه الرواية -من طريقيها- عن مالك منكرة، تخالف المحفوظ عن مالك وجمهور أئمة أهل السنة؛ يقول ابن عبد البر: «والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويصدقون بهذا الحديث، ولا يكيفون، والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء، والحجة في ذلك واحدة، وقد قال قوم من أهل الأثر أيضًا: إنه ينزل أمره، وتنزل رحمته، وروى ذلك عن حبيب كاتب ملك وغيره. وأنكره منهم آخرون، وقالوا: هذا ليس بشيء؛ لأن أمره ورحمته لا يزالان ينزلان أبدًا في الليل والنهار، -تعالى- الملك الجبار الذي إذا أراد أمرًا قال له: كن فيكون في أيِّ وقت شاء، ويختص برحمته من يشاء متى شاء، لا إله إلا هو الكبير المتعال»(26).

شبهة تأويل الإمام أحمد لصفة المجيء لله -تعالى-

ادعوا على الإمام أحمد أنه تأوَّل قوله -تعالى-: {وَجَاءَ رَبُّكَ} (الفجر: 22)؛ فقال: «إنه جاء ثوابه»(27).

يجاب عن هذه الشبهة من وجوه:

غلط على الإمام أحمد

- الأول: أن هذه الرواية غلط على الإمام أحمد: هذا الكلام جاء في رواية حنبل بن إسحق عن الإمام أحمد، ومعلوم عند الحنابلة أن حنبلًا له روايات شاذة، ينفرد بها عن الإمام أحمد:

     يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «قيل: إن هذا غلط من حنبل، انفرد به دون الذين ذكروا عنه المناظرة(28)، مثل صالح، وعبد الله، والمرُّوذي وغيرهم؛ فإنهم لم يذكروا هذا، وحنبل ينفرد بروايات يغلطه فيها طائفة كالخلال وصاحبه، قال أبو إسحق ابن شاقلا: هذا غلط من حنبل، لا شك فيه...»(29).

ويقول الذهبي -عن حنبل- : «له مسائل كثيرة عن أحمد، ويتفرد، ويغرب» (30).

     ويقول ابن القيم: «فإن حنبلًا تفرد به عنه، وهو كثير المفاريد المخالفة للمشهور من مذهبه، وإذا تفرد بما خالف المشهور عنه، فالخلال وصاحبه عبد العزيز لا يثبتون ذلك رواية، وأبو عبد الله بن حامد وغيره يثبتون ذلك رواية، والتحقيق أنها رواية شاذة مخالفة لجادة مذهبه، هذا إذا كان ذلك من مسائل الفروع، فكيف في هذه المسألة؟!»(31).

المناظرة لإلزام الخصم

- الثاني: أن هذه الرواية قالها الإمام في حال المناظرة لإلزام الخصم:

     من المقرر في علم المناظرة: أن المناظِر بالحق قد يقول كلامًا لا يعتقده؛ إلزامًا للخصم، وهذه الرواية من هذا القبيل؛ كما قاله طائفة من أصحاب الإمام أحمد، يقول ابن تيمية: «قال طائفة من أصحاب أحمد: هذا قاله إلزاما للخصم على مذهبه؛ لأنهم في يوم المحنة لما احتجوا عليه بقوله: «تأتي البقرة وآل عمران»، أجابهم بأن معناه: يأتي ثواب البقرة وآل عمران، كقوله: {أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} (البقرة: 210)، أي: أمره وقدرته، على تأويلهم لا أنه يقول بذلك؛ فإن مذهبه ترك التأويل»(32).

معارَضة بما هو أقوى منها

- الثالث: أن هذه الرواية معارَضة بما هو أقوى منها: هذه الرواية قد عارضها غيرها من الروايات المتواترة عن الإمام أحمد في رد التأويل والمنع منه، وإذا لم يمكن الجمع بين الروايات عن الإمام أحمد، فإنه يصار إلى الترجيح، والذي عليه العمل هو ترجيح القول المتواتر المشهور – وهو المنع من التأويل – على القول الغريب الفرد؛ يقول ابن تيمية: «وقد اختلف أصحاب أحمد فيما نقله حنبل؛ فإنه لا ريب أنه خلاف النصوص المتواترة عن أحمد في منعه من تأويل هذا، وتأويل النزول والاستواء، ونحو ذلك من الأفعال»(33)، وقال أيضًا: «إنهم جعلوا هذا رواية عن أحمد، وقد يختلف كلام الأئمة في مسائل مثل هذه، لكن الصحيح المشهور عنه رد التأويل، وقد ذكر الروايتين ابن الزاغوني وغيره، وذكر أن ترك التأويل هي الرواية المشهورة المعمول عليها عند عامة المشايخ من أصحابنا، ورواية التأويل فسر ذلك بالعمد والقصد، لم يفسره بالأمر والقدرة، كما فسروا {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} (البقرة: 29)، فعلى هذا في تأويل ذلك – إذا قيل به – وجهان»(34).

الهوامش

(1) ينظر شبهات القوم في: كتاب «أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم» من (ص: 232- 247).

(2) أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 397).

(3) نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي (1/ 411).

(4) الرد على الجهمية (ص: 21).

(5) الرد على الجهمية (ص: 21- 22).

(6) تهذيب اللغة (10/ 33).

(7) العلو (ص: 117).

(8) شرح الطحاوية (2/ 371).

(9) أخرجه ابن خزيمة في التوحيد (1/ 248)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 39)، وأبو الشيخ في العظمة (2/ 582)، وابن بطة في الإبانة (269).

(10) تهذيب اللغة (10/ 33).

(11) أخرجه ابن حبان في صحيحه (361- إحسان)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (136)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 226).

(12) أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

(13) ينظر: سير أعلام النبلاء (8/ 105).

(14) مجموع الفتاوى (16/ 405).

(15) الكامل في ضعفاء الرجال (3/ 324).

(16) ميزان الاعتدال للذهبي (1/ 452).

(17) الكامل في ضعفاء الرجال (3/ 324).

(18) تهذيب الكمال للمزي (5/ 369).

(19) ميزان الاعتدال (1/ 452).

(20) الكامل في ضعفاء الرجال (3/ 324).

(21) الكامل في ضعفاء الرجال (3/ 329).

(22) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/ 143).

(23) ينظر: لسان الميزان (2/ 415).

(24) المغني في الضعفاء (1/ 127).

(25) الموضوعات (2/ 279).

(26) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/ 143).

(27) ينظر: دفع شبه التشبيه لابن الجوزي (ص: 141)، والبداية والنهاية لابن كثير (14/ 386).

(28) يعني: في المحنة التي تعرض لها الإمام أحمد في القول بخلق القرآن.

(29) مجموع الفتاوى (16/ 405).

(30) سير أعلام النبلاء (13/ 52).

(31) ينظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة للبعلي (ص: 474).

(32) مجموع الفتاوى (16/ 405- 406).

(33) المرجع السابق (16/ 405).

(34) مجموع الفتاوى (16/ 406).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك