أَثَرُ مَقْصِدِ الاجتماع في ترجيح الأحكام الفقهية- آرَاءُ ابْــــنُ تَـــــيْـــمـــِيَّــــة نــــــموذجاً
كان لمقصد الاجْتِماع والائْتِلاف ونَبْذِ التَّفَرُّقِ والاختلافِ حضور بارز عند تقرير الراجح من الأحكام في الفروع الفقهية، تستطيع أَنْ تقف على شواهد ذلك بسهولة ويُسر من خلال ترجيحات الأئمة الراسخين في العلم، ومِنْ هؤلاء شيخ الاسلام ابن تيمية الذي يقرر أَنَّ فعل المرجوح إنما هو رحمة من الله لهذه الأمة، وأَنَّ إلزام الناس برأي واحد - وإِنْ كان راجحًا - على الدوام وفي كل حال إِنَّمَا هو من الآصار والأغلال التي وضعها الله عن هذه الأمَّة.
فيقول: «إِنَّ في ذلك وضعًا لكثير من الآصار والأغلال التي وضعها الشيطان على الأمَّة بلا كتاب من الله ولا أثارة من علم، فَإِنَّ مداومة الإنسان على أمر جائز مرجحًا له على غيره ترجيحًا يحب مَنْ يوافقه عليه، ولا يحب مَنْ لم يوافقه عليه، بل ربما أبغضه بحيث ينكر عليه تركه له، ويكون ذلك سببًا لترك حقوق له وعليه، يوجب أَنَّ ذلك يصير إصرًا عليه، لا يمكنه تركه، و غُلًّا في عنقه يمنعه أن يفعل بعض ما أُمر به، وقد يوقعه في بعض ما نُهي عنه، وهذا القدر الذي قد ذكرته واقع كثيرًا، فَإِنَّ مبدأ المداومة على ذلك يورث اعتقادًا ومحبة غير مشروعين، ثم يخرج إلى المدح والذم والأمر والنهي بغير حق، ثم يخرج ذلك إلى نوع من الموالاة والمعاداة غير المشروعين من جنس أخلاق الجاهلية كأخلاق الأوس والخزرج في الجاهلية»؛ (مجموع الفتاوى (24/ 248).
- ويرى - رحمه الله - أَنَّ التعصب لهذه التَّرجيحات الفقهية فتح بابًا من أبواب التَّفَرُّقِ على الأمة، فيقول: «فجاء في الخَلَف مَنْ يريد أن يجعل اختياره لما اختاره لفضله- أي لأنه الأفضل في نظره -، فجاء الآخر فعارضه في ذلك، ونشأ من ذلك أهواء مُردية مُضلة، فقد يكون النوعان سواءً عند الله ورسوله، فترى كلُّ طائفة طريقَها أفضل، وتحب من يوافقها على ذلك، وتُعرِض عمن يفعل ذلك الآخر، فيفضلون ما سوَّى الله بينه، ويسوُّون ما فضَّل الله بينه، وهذا باب من أبواب التَّفَرُّقِ والاختلاف الذي دخل على الأمة، وقد نهى عنه الكتاب والسنة، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عين هذا الاختلاف في الحديث الصحيح؛ حيث قال: «اقْرَؤُوا كَمَا عَلِمْتُمْ»؛ (مجموع الفتاوى (24/ 246).
أما إعماله لهذا المقصد في الفروع الفقهية فظاهر وكثير جدًّا، أقتصرُ منه على ما يأتي:
- فهو رحمه الله يؤكد - في غير موضع من فتاواه - على أَنَّ المفضول قد يصير فاضلا لمصلحة راجحة، كتأليف القلوب ونحوه فيقول: «وقد استحب الإمام أحمد لمن صلى بقوم لا يقنتون بالوتر، وأرادوا من الإمام ألا يقنت لتأليفهم، فقد استحب ترك الأفضل لتأليفهم. ويستحب الجهر بها - أي: البسملة - إذا كان المأمومون يختارون الجهر لتأليفهم. وهذا كله يرجع إلى أصل جامع: وهو أن المفضول قد يصير فاضلاً لمصلحة راجحة، وإذا كان المحرم - كأكل الميتة - قد يصير واجبًا للمصلحة الراجحة ودفع الضرر، فلأَنْ يصير المفضولُ فاضلاً لمصلحة راجحة أولى»؛ (مجموع الفتاوى (22/ 345).
- كما أسس- رحمه الله - قاعدة: «يُسْتَحَبُّ تَرْكِ الْمُسْتَحَبِّ تَأْلِيفًا للقلوب»، ثم نسج المتأخرون مِنْ العلماء على منواله، فيقول: «ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لِأَنَّ مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي - [ - تغيير بناء البيت؛ لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه مُتمًّا، وقال: الخلاف شر»؛ (مجموع الفتاوى) (22/ 407).
- وفي صلاة ركعتين بين الْأَذَانين قبل الجمعة –كما يحدث في بعض البلدان- يرى أَنَّ مَنْ كان متبوعًا مُطاعًا وغلب على ظنه أَنَّ الناس سيقبلون كلامه ويطيعون أمره دون مفسدةٍ، فله أَلا يصليهما، ومَنْ كان غير ذلك فعليه أَنْ يصليهما حتى يتيسر له الأمر ببيان السنة، فيقول: «وحينئذٍ فمن فعل ذلك لم يُنكَر عليه، ومَنْ ترك ذلك لم ينكر عليه، وهذا أعدل الأقوال، وكلام الإمام أحمد يدل عليه. وإن كان الرجل مع قوم يصلونها فإن كان مطاعًا إذا تركها - وبيَّن لهم السُّنة - لم ينكروا عليه، بل عرفوا السنة، فتركها حسن، وإن لم يكن مطاعًا ورأى أَنَّ في صلاتها تأليفًا لقلوبهم إلى ما هو أنفع أو دفعًا للخصام والشر لعدم التمكن مِنْ بيان الحق لهم وقبولهم له ونحو ذلك، فهذا -أيضًا- حسن«؛ (مجموع الفتاوى (24/193).
- ولم يقتصر إعماله لهذا المقصد على فروع العبادات فقط، بل امتدَّ ليشمل أبواب المعاملات والأخلاق والسلوك، فقد سُئل عن أكل مَنْ في طعامه شُبهة، فأجاب بقوله : « إِنْ علم الرجل أنه ليس بمباح، لم يأكل منه، و إِنْ اشتبه أمره، فلا بأس بتناول اليسير منه إذا كان فيه مصلحة راجحة، مثل تأليف القلوب ونحو ذلك، والله أعلم»؛ (مجموع الفتاوى (24/ 381).
- وفي مسألة هَجر المخالف يُعلِّق - رحمه الله - الحكمَ على المآل، فيقول: «وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم، فَإِنَّ المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يُفضي هجره إلى ضعف الشرِّ وخفيته، كان مشروعًا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألف قومًا ويهجر آخرين...»؛ (مجموع الفتاوى (28/ 206).
- وفي مسألة القيام للقادم - بعد أَنْ بيَّن أَنَّه ليس من هَدي السلف، وأَنَّ الخير في اتِّباعهم، قال: «وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو تُرك لاعتقد أَنَّ ذلك لترك حقِّه أو قصد خَفضه، ولم يعلم العادة الموافقة للسُّنة، فالأصلح أن يُقام له؛ لأَنَّ ذلك أصلح لذات البَين وإزالة التباغض والشحناء، وليس هذا القيام المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سرَّه أن يَتمثَّل له الرِّجالُ قِيامًا، فليتبوأ مَقعده من النَّار»؛ فَإِنَّ ذلك أَنْ يقوموا له وهو قاعدٌ، ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء»؛ (مجموع الفتاوى (1/ 375).
- ومما ينبغي التنبيه إليه: أَنَّ مراعاة هذا المقصد لا تَعني أَنْ يَغضَّ العلماء والدُّعاة الطَّرْفَ عن بيان الرَّاجح والصواب، ولا أَنْ يصمُّوا آذانهم عما يسمعون بحُجَّة الاجتماع والائتلاف، وخوف الفُرقة والاختلاف، ولكن عليهم أَنْ يتحينوا الفرصة ويتخيروا اللَّفظ، وأَنْ يُراعوا حال المستمعين والمدعوِّين، وأَنْ يَدرسوا المسألة دراسةً جيدة من جميع جوانبها ولاسيما موقعها من فقه الأولويات، وأَنْ يستشيروا غيرهم، مُراعين في كل ذلك كلامَ أهل الاختصاص في الفقه والدعوة، فإذا بدا لهم أَنَّ الكلام أولى، توجَّب عليهم بيان الحق والصواب؛ ابتغاء مرضاة ربهم، وشفقة على الخلق، وخوفًا من إثم الكتمان، وإلا كان السكوت أولى.
اللَّهم اجعلنا ممن يَجْمَعُونَ الخَلْقَ على الحق وبالحق وللحق، آمين.
لاتوجد تعليقات