رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: علاء إبراهيم عبدالحميد 19 سبتمبر، 2018 0 تعليق

أوراق بحثية (3) إبطال دعوى وقوع السلف في التأويل الفاسد

من المعلوم أن إثبات المذاهب عمومًا -في قضية ما، أو مسألة معينة- لا يكون بتتبع الأقوال الشاذة والغريبة – على فرض ثبوتها- وإنما يكون بتوارد الأقوال وتتابعها في طريق مَهْيَع، وسبيل واضح، ونهج مستقيم، ومع وضوح هذا المسلك في إثبات مذاهب العلماء؛ فإن بعض المنتسبين إلى المذهب الأشعري يحاولون تقوية طريقتهم في تأويل صفات الله -تعالى- وصرفها عن ظاهرها وحقيقتها؛ بادعاء وقوع بعض علماء السلف فيما يطلقون عليه تأويلًا، وقد تكلمنا في الحلقة الماضية عن منهج السلف في صفات الله -تعالى-، وعن الصفات الواردة في القرآن والسنة، ثم تحدثنا عن الشبه التي أوقعت بعضهم في تلك المخالفات، وأودت ببعضهم فادعى وقوع بعض السلف في التأويل الفاسد لصفات الله -تعالى-، واليوم نستكمل عن الرد التفصيلي على دعوى وقوع السلف في التأويل.

شبهة تأويل الإمام البخاري لصفة الضحك

ادعوا أن الإمام البخاري قال – في صفة ضحك الله -تعالى-: «معنى الضحك الرحمة»(1).

الإجابة عن الشبهة

يجاب عنها من وجوه: الأول: أن هذا الأثر ضعيف منقطع؛ فإن البيهقي نقله عن الفربري عن البخاري، ولم يذكر سنده إلى الفربري، والانقطاع من أسباب الضعف، كما لا يخفى.

الثاني: أنه مع كثرة نسخ صحيح الإمام البخاري؛ فإنه لا يعرف هذا القول عن البخاري في نسخة منها؛ يقول الحافظ ابن حجر: «ولم أر ذلك في النسخ التي وقعت لنا من البخاري»(2).

ثانيًا: شبهاتهم من جهة الخطأ في الفهم: فهم بعض الأشاعرة كلامًا لبعض السلف على غير وجهه الصحيح، وظنوا أنه من قبيل التأويل الفاسد؛ الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فجعلوا كلام السلف فاسدًا معيبًا من حيث لا يدرون، وحقيقة الأمر: أن كلام السلف صحيح ولا يؤدي إلى ما فهموه منه، وفي ذلك:

وكَمْ مِنْ عائبٍ قَوْلًا صَحِيحًا                               وآفتُه مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ

ولا يخرج ما ذكروه عن السلف عن أمرين: إما أنه تفسير باللازم، وإما أنه ليس من آيات الصفات أصلًا.

قوله -تعالى-: {بِأَعْيُنِنَا}

وفيما يلي بيان ذلك: تفسير ابن عباس والطبري لقوله -تعالى-: {بِأَعْيُنِنَا}: ادعوا أن ابن عباس -رضي الله عنهما- تأوَّل قوله -تعالى-: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} (هود: 37)، فقال: «بمرأى منا»(3). وأن الطبري قال: «بمرأى مني ومحبة وإرادة»(4).

الإجابة عن الدعوى

يجاب عن هذه الدعوى من وجهين:

معناه صحيح

- الأول: بالرغم من أن هذا الأثر لم يرو مسندًا عن ابن عباس -إلا أن معناه صحيح- والثابت عن ابن عباس قوله -في تفسير الآية-: «بعين الله»(5). قال البيهقي: «والذي يدل عليه ظاهر الكتاب والسنة من إثبات العين له صفة»(6).

قال به غير واحد من السلف

- الثاني: أن هذا المعنى صحيح، قد قال به غير واحد من السلف، وهو من قبيل التفسير باللازم، ولا يعارض ذلك إثباتهم للأصل، وهو صفة العين لله -تعالى-؛ يقول الشيخ ابن عثيمين (ت 1421 هـ): «فإذا قال قائل: قد ورد في تفسير بعض السلف لقوله -تعالى-: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} قال: تجري بمرأى منا، فهل يعد هذا تحريفًا أم ماذا؟

فالجواب: ليس هذا تحريفًا؛ لأنهم يقولون: تجري بمرأى منا مع إقرارهم بالعين، ولو أن هذا القول كان من شخص ينكر العين لقلنا: هذا تحريف.

والذين قالوا: إن المعنى بمرأى منا، فإن معنى كلامهم أنها تجري ونحن نراها بأعيننا، وكأنهم يريدون بذلك الرد على من زعم أن ظاهر الآية أن السفينة تجري في نفس العين، وحاشا لله»(7).

قوله -تعالى-: {بِأَيْدٍ}

تفسير ابن عباس لقوله -تعالى-: {بِأَيْدٍ}: زعموا أن قول ابن عباس في تفسير قوله -تعالى-: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} (الذاريات: 47): «بقوة»(8)، من قبيل التأويل.

يجاب عن فهمهم من وجهين: الأول: هذا المعنى المنقول عن ابن عباس صحيح ثابت، وليس هو من التأويل الفاسد.

الثاني: إن قوله -تعالى-: {بِأَيْدٍ} ليس جمع «يد»، وإنما الأيد: القوة. يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ت 1393 هـ): «فمن ظن أنها جمع يد في هذه الآية فقد غلط غلطًا فاحشًا، والمعنى: والسماء بنيناها بقوة»(9).

قوله -تعالى-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}

تفسير ابن عباس قوله -تعالى-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}: قال -تعالى-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} (النور: 35)، قال ابن عباس في تفسيره: «الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض»(10)، فزعموا أن قول ابن عباس من التأويل الفاسد.

      يجاب عن فهمهم: بغض النظر عن ثبوت هذا الأثر عن ابن عباس، فإن معناه صحيح؛ ولا يمنع أن يكون الله -تعالى- في نفسه نورًا؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «ثم قول من قال من السلف (يعني: في تفسير الآية): «هادي أهل السموات والأرض» لا يمنع أن يكون في نفسه نورًا؛ فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض «صفات المفسَّر» من الأسماء أو بعض أنواعه؛ ولا ينافي ذلك ثبوت بقية الصفات للمسمى، بل قد يكونان متلازمين، ولا دخول لبقية الأنواع فيه...ومن تدبره علم أن أكثر أقوال السلف في التفسير متفقة غير مختلفة» (11).

قوله -تعالى-: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}

تفسير ابن عباس لقوله -تعالى-: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}: قال -تعالى-: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (الرحمن: 27)، فقال ابن عباس: «الوجه عبارة عنه»(12).

     يجاب عن فهمهم: بالرغم من أن هذا الأثر لم يسند عن ابن عباس، إلا أنه ليس فيه ما يدل على أن ابن عباس ينفي الوجه لله -تعالى-، بل الصحيح المسند عنه هو إثبات الوجه لله -تعالى-؛ كما في قوله -تعالى-: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس: 26)، قال: «الزيادة: فالنظر إلى وجه الله»(13). ولذا يقول ابن تيمية: «المعنى الصحيح للآية: إن بقاء وجهه المذوي بالجلال والإكرام: هو بقاء ذاته»(14).

قوله -تعالى-: {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}

     تفسير ابن عباس والضحاك وقتادة وسعيد لقوله -تعالى-: {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}: ادَّعوا أن تفسير ابن عباس لقوله -تعالى-: {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} (القلم: 42): «هو يوم حرب وشدّة»(15). وعن الضحاك وقتادة وسعيد بن جبير بنحوه، فظنوا أن هذه الأقوال كلها من التأويل الفاسد.

     يجاب عن فهمهم من وجهين: الأول: يعدُّ هذا من التفسير، وليس تأويلًا -بالمعنى الذي يذهب إليه الأشاعرة- وظاهر الآية أنها ليست من آيات الصفات؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «لا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات؛ فإنه قال: {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} نكرة في الإثبات، لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف؛ ولكن كثير من هؤلاء يجعلون اللفظ على ما ليس مدلولًا له، ثم يريدون صرفه عنه، ويجعلون هذا تأويلا، وهذا خطأ...»(16).

     الثاني: بالرغم من هذا؛ فليس في الأثر ما يدل على نفي صفة الساق لله -تعالى- على الوجه اللائق به سبحانه؛ وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -فيما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه مرفوعًا- أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، فَيَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ، فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا»(17).

قوله -تعالى-: {جَنْبِ اللَّهِ}

     تفسير ابن عباس ومجاهد والسدي لقوله -تعالى-: {جَنْبِ اللَّهِ}: في قوله -تعالى-: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} (الزمر: 56)، قال ابن عباس: «يريد على ما ضيعت من ثواب الله»(18). وعن مجاهد والسدي بنحوه، فزعموا أن هذا من التأويل الفاسد.

     يجاب عن فهمهم: إن هذه الآية ليست من آيات الصفات؛ يقول الألوسي (ت 1270 هـ): «ولم أقف على عد أحد من السلف إياه من الصفات السمعية، ولا أعول على ما في المواقف، وعلى فرض كلامهم فيها شهير، وكلهم مجمعون على التنزيه، وسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير»(19).

 قوله -تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}

تفسير الثوري والطبري لصفة الاستواء: قال الثوري في قوله -تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (البقرة: 29): «قصد إليها»(20). وعن الطبري: «أقبل عليها»(21)، فزعموا أن هذا تأويل فاسدً.

يجاب عن فهمهم من وجوه: الأول: لم يرو هذا الأثر عن الثوري مسندًا، والصحيح الثابت عنه قوله في أحاديث الصفات: «أمروها كما جاءت بلا كيف»(22).

- الثاني: أن هذا المعنى صحيح، وبتمام النقل عن الطبري يتضح المراد، وتزول الشبهة، يقول الطبري: «وأوْلى المعاني بقول الله -جل ثناؤه-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ}: علا عليهن وارتفع، فدبرهنّ بقدرته، وخلقهنّ سبع سموات.

     والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل(23) قول الله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}: الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه -إذا تأوَّله بمعناه المفهم كذلك- أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر.

ثم لم يَنْجُ مما هرَب منه؛ فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: {اسْتَوَى}: أقبلَ، أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها؟!

فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير.

قيل له: فكذلك فقُلْ: علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان، لا علوّ انتقال وزَوال»(24).

الثالث: أنه ليس فيما نقل عن الثوري والطبري تأويل لقوله -تعالى-: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (الأعراف: 54)، كما زعموا، يقول الطبري: «يعني: علا عليه»(25).

قوله -تعالى-: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}

تفسير مجاهد والضحاك والشافعي وأبي عبيدة والبخاري لقوله -تعالى-: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}: ادَّعوا أن هؤلاء الأئمة تأوَّلوا قوله -تعالى-: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: 115).

     يجاب عن فهمهم: هذه الآية ليست من آيات الصفات، على ما ذهب إليه جمهور السلف؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -في معرض بيان معناها -: «أي: قِبلة الله ووجهة الله، هكذا قال جمهور السلف، وإن عدَّها بعضهم في الصفات، وقد يدل على الصفة بوجه فيه نظر»(26).

     خلاصة ما سبق: أنه يتعين على المؤمن حقًّا أن يسأل الله -تعالى- العصمة من الوقوع في الزلل باتهام علماء السلف بما هم منه براء؛ فإن الأصل الراسخ عند علماء أهل السنة والجماعة في إثبات صفات الله -تعالى-: إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، والكلام في الصفا  ت فرع على الكلام في الذات.

الهوامش

(1) الأسماء والصفات للبيهقي (2/72، 402).

(2) فتح الباري (8/ 632).

(3) ينظر: تفسير السمعاني (2/ 427)، وتفسير البغوي (4/ 173).

(4) تفسير الطبري (18/ 304).

(5) أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 309)، وابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 2026)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 116).

(6) الأسماء والصفات (2/ 116- 117).

(7) شرح العقيدة السفارينية لابن عثيمين (1/ 271).

(8) أخرجه الضياء في الأحاديث المختارة (131)، وهو في تفسير القرطبي (17/ 52) بلفظ: «بقوة وقدرة».

(9) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 442).

(10) أخرجه الطبري في تفسيره (19/ 177).

(11) مجموع الفتاوى (6/ 390).

(12) تفسير القرطبي (17/ 165).

(13) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 509).

(14) مجموع الفتاوى (2/ 434).

(15) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 554).

(16) مجموع الفتاوى (6/ 394- 395).

(17) أخرجه البخاري (4919)، ومسلم (183).

(18) روح المعاني للألوسي (12/ 272).

(19) روح المعاني (12/ 273).

(20) ينظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لملا علي القاري (3/ 924).

(21) تفسير الطبري (1/ 428).

(22) أخرجه أبو بكر الخلال في السنة (1/ 259)، والآجري في الشريعة (3/ 1146)، والدارقطني في الصفات (ص: 44).

(23) التأويل عند المتقدمين بمعنى التفسير، بخلافه عند الأشاعرة.

(24) تفسير الطبري (1/ 430).

(25) تفسير الطبري (16/ 325) تفسير الطبري (16/ 325)

(26) مجموع الفتاوى (2/ 429).

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك