رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: علاء إبراهيم عبدالحميد 13 يونيو، 2018 0 تعليق

أوراق بحثية – دفع الشبهات عن حديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله»

 

بدا واضحًا في الأزمنة المتأخرة إفلاسُ أعداء الإسلام في تشويه حقيقة الإسلام؛ لذا قرروا – وتبعهم أعوانهم – انتهاز ضعف الأمة وما تمر به من أزمات، فأعادوا صياغة الشبهات القديمة التي ابتدعها أسلافهم، وفشلوا في تحقيق أغراضهم بنشرها؛ رغبة في تحقيق أهدافهم المشؤومة الفاشلة، علَّها تلقى قبولًا، ويأبى الله -تعالى- إلا أن يتم نوره؛ قال -تعالى-: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة: 32، 33).

     ومن جملة ما يُشنِّعون به في وسائل الإعلام، ويفرحون بترويجه وإذاعته: حديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله»، وأن دعوة الإسلام قامت بالسيف، هذه شبهتهم المفضوحة، ولو أنهم استقرَوا التاريخ الإسلامي منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى وقتنا المعاصر، مرورًا بما فعله المسلمون الفاتحون -من التسامح والرحمة- مع أهل البلاد التي فتحوها لاتّضح لهم جليًّا كذب هذه الشبهة، وأنها فِرية مفضوحة على الإسلام، ولكن هذه سنة الله -تعالى- في أرضه؛ ليتحقق دفع الباطل بالحق؛ قال -تعالى-: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُون} (الأنبياء: 18)، وفي هذه الورقة العلمية نسلط الضوء على هذا الحديث الشريف؛ بيانًا وتفنيدًا للشبهات التي أثيرت حوله.

نص الحديث

     روى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ»(1).

المعنى الإجمالي

     والمعنى الإجمالي لما اشتبه عليهم من الحديث: أن الله -تعالى- أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقتال المحاربين الذين أذن الله في قتالهم، ولم يُرد قتال المعاهَدين الذين أمر الله بوفاء عهدهم(2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله...» بيان للغاية التي ينتهي عندها القتال بين المسلمين وبين غيرهم من المشركين، إذا تحققت شروط القتال من الاعتداء أو المنع من إظهار الدين.

     ومع وضوح هذا المعنى لكل من استقرأ سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إلا أن بعض الناس رام الطعن في هذا الحديث بالضعف، وهو كلام مردود غاية في السقوط؛ لأن الحديث – كما قال العلماء – حديث متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، رواه عنه خمسة عشر صحابيًّا(3)، منهم: أبو هريرة -بل رواه عن أبي هريرة وحده ثلاثون نفسًا- وأنس بن مالك، وعمر بن الخطاب، وجابر بن عبد الله، وطارق بن أشيم الأشجعي، وأوس بن أوس الثقفي، ومعاذ بن جبل، والنعمان بن بشير، وغيرهم -رضي الله عنهم أجمعين-(4)، وقد اتفق أهل العلم قاطبة على قبول الحديث، وعلى فهمه على الوجه المراد منه، ولم يردّه أحد منهم، ولا خطرت على بال أحدهم هذه الأوهام لينبري للدفاع والرد.

يأس أهل الزيغ

     ومع يأس أهل الزيغ من تضعيف الحديث لجؤوا إلى التمويه والخداع في محاولة بائسة لتضعيف المتن بشبهات لا قرار لها ولا صحة، وأقل ما يقال عنها: إنها تشغيبات وتُرَّهات انقدحت في أذهان أناس لا علم لهم بشريعة الإسلام، ولا باللغة العربية التي جعلها الله -تعالى- وعاءً لهذا الدين، ولا تنبني هذه التُّرهات على أساس من العلم أو الفهم، بل هي مجموعة من الأمور العقلانية حسبما اتفق لهم القول بها، ولا قاعدة صحيحة مستقيمة لها، وهي مع ذلك مما تمجها العقول السليمة ولا تقبلها، فضلًا عن الشرع المستقيم.

لفظ (أقاتل)

     ومن شبهاتهم التي حاولوا التمويه بها: لفظ (أقاتل) في الحديث يدل على العموم، وفيه الأمر بقتل الناس جميعًا، وقهرهم على الدخول في الإسلام. والجواب عن هذا: أنه كلام باطل؛ فإن كلمة (أقاتل) من المقاتلة، وقد اتفق أهل اللسان الذي نزلت به الشريعة الإسلامية على أن هناك فرقًا لغويًّا بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه؛ فإن المقاتلة على وِزان المفاعلة، «وبابها الغالب أن تكون من اثنين، يفعل كل واحد منهما بصاحبِه ما يفعله صاحبُه به، مثل: ضاربته وحاربته»(5)، وعليه فالمعنى الصحيح لكلمة (أقاتل): أن هناك طرفًا يقاتِل طرفًا آخر، وهذا الطرفُ الآخر يرد عليه بالقتال، ولا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل(6)، بمعنى: أنه قد يقاتَل الشخصُ لكونه يقاتِل، لكنه إذا ترك القتال فإنه لا يقاتَل ولا يُقتَل، مثال ذلك: الكافر الحربي الذي يقاتل المسلمين فإننا نقاتله؛ قال -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: 190)، فإن توقف الكافر الحربي عن قتالنا، وقبِل الدخول في الإسلام، أو قبل أن يدفع الجزية، فإننا نقبل منه ذلك، ونكف عن قتاله، يؤكد هذا المعنى الإمام الشافعي -رحمه الله- بقوله: «ليس القتال من القتل بسبيل، فقد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله»(7).

كلمة (الناس)

ومن شبهاتهم: أن كلمة (الناس) التي جاءت في الحديث كلمة عامة، وهي تشمل الناس جميعهم، فعليه -هكذا قالوا زورًا وبهتانًا-: فإن الإسلام جاء بالقتل لجميع الناس.

والجواب عن هذه الشبهة من وجوه مرتبة:

     هذا الكلام غير صحيح، وكلمة (الناس) قد تأتي في الشريعة ويُراد بها جميع الناس، وقد تأتي ويراد بها بعضهم: فمن الأول -أن تأتي ويراد بها الناس جميعهم- قوله -تعالى-: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (الناس: 1)، وقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21)، والآيات في ذلك كثيرة، ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة»(8).

     وقد تأتي كلمة (الناس) ويُراد بها بعضهم، والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن الكريم، منها قوله -تعالى-: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} (الحج:27). والمراد بالناس هنا المسلمون فقط باتفاق، وقوله -تعالى-: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173). والمراد بقوله: {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} هنا هو: نعيم بن مسعود، كما قال مجاهد وعكرمة، ولا يراد به الناس جميعهم قطعًا.

أمر غير معقول

     ومن ذلك هذا الحديث الذي معنا: «أمرت أن أقاتل الناس»؛ إذ لا يعقل أن يؤمر النبي -[- بقتال الناس جميعًا على اختلاف اعتقاداتهم، فمنهم المسلم ومنهم المنافق ومنهم المشرك والكافر، ولا يقول عاقل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء ليقتل الناس جميعهم، وكيف يقاتَل المسلمُ والمنافقُ وهما أصلًا يقولان لا إله إلا الله؟! ولهذا نظائر في كلام الناس، فنجدهم يقولون: رأيت الناس يفعلون كذا وكذا. وبالطبع هم لا يريدون الناس جميعا، وإنما يريدون رؤية بعضهم.

لفظ عام

     وعليه فكلمة (الناس) الواردة في الحديث لفظ عام -يشمل المسلمين والكفار والمنافقين- لكنه يراد به الخصوص؛ إذ من المعلوم قطعًا -كما تقدم- أن المسلمين والمنافقين غير داخلين في الحديث؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ولم يبق من الأصناف الثلاثة إلا الكفار والمشركين.

     ومما يؤكد أن المراد بكلمة (الناس) في الحديث المشركون فقط، ما رواه أبو داود والنسائي من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه...» الحديث(9). قال الحافظ ابن حجر: «فيكون المراد بالناس في قوله: «أقاتل الناس» أي: المشركين من غير أهل الكتاب»(10).

عدم استئصال المشركين

     ومعلوم قطعًا من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يستأصل المشركين والكفار جميعا، وكذا الخلفاء الراشدون ومن تبعهم إلى وقت الناس هذا، نعم لا بدَّ من التأكيد على أنه لم يُعرف في تاريخ الإسلام منذ بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى وقتنا المعاصر أن الإسلام يدعو إلى قتل الكفار والمشركين جميعا، وعلى العكس تمامًا: فإن الإسلام يرى أن الكفر والشرك والمعتقدات الفاسدة أمراض يجب أن تعالج بالحجة والبيان، وليس بالقتال وإزهاق الأرواح، هذا هو الأصل في دعوة الإسلام، وإنما أُمِر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتال المحاربين من المشركين، أو من منع نشر دين الله -تعالى- في الأرض.

المراد بكلمة (الناس)

     مما تقدم نخلص إلى: أن المراد بكلمة (الناس) هم المشركون المحاربون، والواقفون حجر عثرة أمام دعوة الإسلام ووصول نور الله -تعالى- للعالمين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – مبينًا هذا المعنى -: «إذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأمَّا من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة؛ كالنساء والصبيان، والراهب والشيخ الكبير، والأعمى والزَّمِن(11)، ونحوهم، فلا يُقتل عند جمهور العلماء إلا أن يُقَاتِل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر، إلا النساء والصبيان، والأول هو الصواب؛ لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله...»(12).  (وللحديث بقية إن شاء الله)

الهوامش

(1) رواه البخاري (25)، ومسلم (22).

(2) ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (19/ 20).

(3) ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 244).

(4) ينظر: مجمع الزوائد (1/ 24- 26)، والسلسلة الصحيحة (1/ 691- 692).

(5) ينظر: المصباح المنير (1/ 304).

(6) ينظر: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 219).

(7) ينظر: السنن الكبرى للبيهقي (8/ 326)، وفتح الباري (1/ 76).

(8) رواه البخاري (438)، ومسلم (521) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(9) رواه أبو داود (2642)، والنسائي (3966).

(10) فتح الباري (1/ 77).

(11) الزَّمِن: هو الذي أصابه داء في جسده فلا يستطيع الحركة للمشي. ينظر: المصباح المنير (2/ 510).

(12) السياسة الشرعية (ص: 99- 100).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك