رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. مصطفى إبراهيم 10 أغسطس، 2017 0 تعليق

أهمية دراسة القضايا المنهجية المميزة لأهل السنة والجماعة

 

 

لقد وُجدت - ولاتزال- على مرّ العصور بعض مسائل الشريعة التي تمثل شعاراً لأهل السنة والجماعة, وقد مثّل الاهتمام بتلك المسائل الفارق المميز بين أهل السنة وغيرهم من أهل البدع والضلالات, لدرجة أن أهل العلم قد أدرجوا تلك المسائل ضمن قضايا الاعتقاد رغم كونها أحياناً ليست من مسائل العقيدة.

     وهذا في كل عصر من عصور الأمة حين تبرز بعض قضايا العلم والدين حتى يصبح التمسك بها علامة على التمسك بالسنة والمنهج الصحيح, والخلاف فيها علامة على أهل البدع؛ وذلك كمسألة المسح على الخفين, وكمسألة حكم الصلاة خلف أئمة الجور، وكمسألة حكم الصلاة خلف كل بر وفاجر من المسلمين, فهذه بعض قضايا الفقه والعمل التي نصّ عليها العلماء ضمن قضايا الاعتقاد نظراً لما ذكرنا من كونها صارت علامة على أهل السنة.

     كما قد تبرز أيضاً بعض قضايا الاعتقاد دون غيرها في وقتٍ ما, حتى تكون هي المميزة لأصحاب المنهج السلفي بسبب كثرة وقوع المخالفات فيها؛ كانتشار الشرك في باب الألوهية - ولايزال- في زمن الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله, حتى أصبح باب سدّ الذرائع المفضية إلى الشرك هو العلامة المميزة لأهل السنة, وأصبح التساهل في هذا الباب هو العلامة المميزة لأهل البدع.

     وهكذا فإنه في كل زمان يوجد قدرٌ مميزٌ لأهل السنة وأصحاب المنهج السلفي الصحيح, يتمثل في صحة الفهم والتصور ومن ثمّ صحة التطبيق لقضايا أساسية عدة من قضايا الشريعة, هي في جملتها ضمن قضايا الدين الأساسية التي بيّنها العلماء قديماً وحديثاً, ولكنها برزت على السطح بسبب كثرة وقوع الخلل والمخالفات فيها, ليس فقط من خصوم السنة والحق بل أحياناً يحصل فيها سوء تصور وتطبيق من بعض المنتسبين للسنة.

     لذا صار التمسك بها والجهر ببيان الحق فيها ودعوة الناس إليه والتحذير ممن يدعوا لخلافه سنةُ من سلف من أهل العلم والاستقامة, وحماية لجناب المنهج السلفي المعصوم, بل يمكن أن نقول: إن عدم دراسة تلك القضايا المنهجية هو السبب المباشر في وقوع الخلل أو التقصير في معالجة واقعنا المعاصر؛ فالشخصية المتكاملة هي فقط التي تحافظ على الاتزان المطلوب في معالجة هموم الأمة المصيرية وقضاياها, ولا يمكن لذلك أن يكون إلا بتحقيق المنهج العلمي الصائب والمنهج العملي الصحيح.

البدء بالأهم فالأهم

     ومن المعلوم أن البدء بالأهم فالأهم في كل الأمور، سنة نبوية, وطريقة سلفية, ومسلك فطري تقتضيه العقول السويّة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوماً أهل كتاب, فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله», لذا فقد قرر علماؤنا رحمهم الله قواعد عظيمة استنبطوها من هذه السنة النبوية الشريفة؛ منها أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز, وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, وأن الوسائل لها أحكام المقاصد, إلخ.

طريقة السلف ومنهجهم

     لذا كان دأب السلف -رحمهم الله- في التعليم والتدريس البدء بتعليم العقيدة الصحيحة مع التركيز على القضايا التي يتميز بها أهل السنة والجماعة عن أهل البدع في زمانهم كتلقين الناشئة صفات الله -تعالى- التي وردت بها السنة, وأن القرآن كلام الله حقيقة, وأن الإيمان يزيد وينقص وأنه أصل وله شعب؛ حرصاً منهم -رحمهم الله- على النقاء العقدي للناشئة في بداية الطلب وعدم تسرب الخلل والتصورات الخطأ؛ فكانت مواجهة الفتن التي تعصف بالأمة في تلك الأزمان تتم عن طريق الحرص على تعليم العقيدة الصحيحة مع التركيز على المسائل التي خالف فيها أهل بدع زمانهم.

القضايا المنهجية

     وقد برزت في زماننا الذي نحن فيه أيضاً بعض القضايا المنهجية التي صار الاعتناء بها علامة على منهج أهل السنة والجماعة -كما سبق معنا-؛ وأصبح من الضروري على كل مسلم وطالب علم البدء بدراسة تلك المسائل -بعد تعلم ما لا يسعه جهله مما تستقيم به عبادته-؛ إذ إن الوقاية خير من العلاج ودفع البلاء أسهل وأولى من رفعه, وحماية الجيل من الأفكار الهدامة واجب وقت المرحلة؛ حماية لهم ممن يصطادون في الماء العكر، ويسخرون ما تمر به الأمة من أزمات ومحن لمآرب خبيثة وتوجهات منحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة.

     لذا فإن مما يقتضيه الشرع والعقل وطريقة السلف: البدء بدراسة تلك المسائل تفصيلياً وتقديمها على غيرها من التخصص المبكر ومُلح العلم؛ فذلك ليس بدعاً من طريقة السلف في التعليم بل هو عين طريقتهم ومسلكهم في التربية والتعليم.

     وعليه, فلا ينبغي لقائل أن يسفه من دراسة قضايا المنهج -وسيأتي بيانها في مقالات قادمة بإذن الله- أو يزعم ضرورة إهمالها أو تأخيرها بزعم عدم مناسبتها للمرحلة!؛ سيما وقد رأينا مدى تحصينها لدارسيها من تسرب الأفكار الهدامة, ورأينا أيضاً قدر الشطط الذي يصل إليه من لا علم له بقضايا المنهج -وإن أكثر وأطنب من الدراسة والقراءة في غيرها من مُلح العلم والتخصصية المبكرة.

     ورغم ذلك فإن بعضهم يأبى إلّا أن يثير اعتراضاً وشبهةً حولها وحول المهتمين بها، تلكم الشبهة هي قولهم: «إن نصب مسائل وجعلها علامة فارقة مميزة, بحيث يكون من التزمها ملتزماً للمنهج الصحيح, والعكس بالعكس، يُعدُّ تفريقاً للصفوف وتعصباً مذموماً»!!..

     وقبل أن نفصل بطلان ذلك نقول: لاشك أن هذا قول أحد رجلين: إما قول مبتدع ضال مغرض, مخالف لأهل السنة والجماعة يريد هدم منارات الطريق الموصل إلى ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان, وإما قول صاحب منهج خطأ وتصورات مغلوطة حول طرائق الإصلاح الشرعية, يريد صدّ العامة عن أن يتبصروا مواقع أقدامهم لئلا يتبين لهم خطأ قوله ومسلكه الذي زعمه طريقاً للإصلاح.

 

موقف الشرع من الفُرقة بين المسلمين

 وأما عن تلك الدعوى القديمة المعلبة فهي شبهة داحضة يكذبها الشرع والواقع وسنن الله الكونية ووقائع الزمان وأحداثه؛ وتفصيل ذلك: أولاً: إن الشرع الشريف لم يذم الفُرقة ذماً مطلقاً ولم يندب إلى الاجتماع ندباً مطلقاً؛ بل ذم تفرقاً مخصوصاً وامتدح اجتماعاً مخصوصاً؛ فقال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده}, وقال - صلى الله عليه وسلم -: «بُعثت فَرَقاً بين الناس»؛ فهذا تفرق محمود ندب إليه الشرع وحث على مفارقة الخلق لأجله, وجعل لنا في هذا الأصل أسوة في إبراهيم -عليه السلام- والذين معه, بل عليه وفيه قاتل الرجل أباه وأخاه, وهجرت المرأة زوجها وفارقته, وتشتت شمل المجتمع المستقر على الباطل ليتمايز وتتنقى الصفوف, واطراداً لهذا الأصل فارق أفاضل السلف -رحمهم الله- أهل البدع والأهواء ولم يجالسوهم ولم يكلموهم ولم يناظروهم -إلا لمصلحة شرعية-؛ فمن تأمل آيات الله الشرعية وجد أن التفرق المنهي عنه هو فقط التفرق على البينات وفيها؛ فقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات}, وقال تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة}.

     وعلى الجانب الآخر نجد أن الشرع لم يأمر بجمع الكلمة مطلقاً بل أمر باجتماع مخصوص؛ فقال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}, ووصف -صلى الله عليه وسلم - (الجماعة) المعتبرة شرعاً بقوله: «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» -وهما روايتان صحيحتان في حديث الافتراق المشهور-, وذمّ -سبحانه- الاجتماع إذا كان على باطل فقال: {ما أغنى عنكم جمعكم}, بل إن الشرع لم يعتبر القلة والكثرة في الاستدلال على الحق؛ فقال -سبحانه-: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}, وقال: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله}, وقال: {ولكن أكثرهم يجهلون}. هذا من جهة ردّ الشرع لتلك الشبهة, أما عن بطلانها من جهة الواقع والسنن الكونية ووقائع الزمان وأحداثه, فسنتناولها في مقالات قادمة بإذن الله تعالى.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك