رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات 20 نوفمبر، 2024 0 تعليق

أهمية أعمال القلوب (1)

 

  • الأصل عمل القلب وعليه تُبنى أعمال الجوارح فكل عمل من أعمال الجوارح لابد له من النية وهو من أهم أعمال القلب
  • النية بمنزلة الروح والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح فموات وكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث
  • عمل القلب هو العلامة الفارقة بين المؤمن والمنافق فالمنافق يأتي بأعمال الجوارح من العبادات الظاهرة ولكن لا يُقبل منه شيء من عمله وإن عبَد وسَجد
  • ليس الإيمان مجرَّد ألفاظ يُطلقها اللسان فقط والقلب في معزلٍ عنها بل لابد من أعمال القلوب بالإخلاص والخشية والإنابة والخوف والرجاء والمحبة وليس الإيمان مجرَّد حركات للجوارح دون حضور القلب
 

من أهمّ فروع العقيدة التي تغافل الناس عن العناية بها والتذكير بها أعمال القلوب، فمن المعلوم أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، أو كما ورد عن السلف أنه قول وعمل، ثم القول قولان: قول القلب واللسان، والعمل عملان: عمل القلب وعمل بالجوارح بأن يؤدِّي العبد ما أوجبَ الله -تعالى- عليه من العبادات، وكما أنه لا يكفي إيمان المؤمن بلسانه دون أن يتبعه عمل جوارحه، فكذلك ليس الإيمان مجرَّد ألفاظ يُطلقها اللسان والقلب في معزلٍ عنها، بل لابد من أعمال القلوب من الإخلاص والخشية والإنابة والخوف والرجاء والمحبة، وليس الإيمان مجرَّد حركات للجوارح دون أن يكون القلب حاضرًا فيها، فلابد لكل عمل من نية ومن خشوع وتقوى لله -سبحانه-، وكما أن الإيمان يَزداد وينقص بأعمال الجوارح فكذلك يزداد الإيمان ويعظم بالطاعات القلبية، ويَنقص ويضعف بالآفات والذنوب القلبية من حقد وحسد ورياء وشرك وغيرها.

والمقصود أن من أهم ما حصلت الغفلة عنه الجزء المتعلّق بالقلب مع أنه من أهم ما ينبغي الحرص عليه، إذ أعمال القلوب هي الأصل والأساس الذي تُبنى عليه الأعمال الأخرى من أعمال الجوارح، وصلاح القلب هو أساس الصلاح للإنسان.

أهمية أعمال القلوب

         يكفي المؤمن أن يعرف عن مكانة أعمال القلوب أنها هي الأصل في الإيمان، وهي الأصل في العلاقة التي بينه وبين ربه ومولاه، وفي ذلك يؤكد ابن القيم -رحمه الله- بأن أعمال القلوب «إنما هي الأصل والمقصود، وأعمال الجوارح تبَعٌ ومُكمِّلة»، ثم يمثِّل لذلك بأن «النية بمنزلة الروح والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح فموات، وكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث»، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح، إذ هي أصلها وأحكام الجوارح متفرعة عليها.

الأصل عمل القلب

        إذًا، الأصل هو عمل القلب، وعليه تُبنى أعمال الجوارح، فكل عمل من أعمال الجوارح لا بد له من النية، وهو من أهم أعمال القلب، يقول ابنِ تيميَّةَ: «والدِّينُ القائمُ بالقلبِ مِن الإيمانِ عِلمًا وحالًا هو الأصلُ، والأعمالُ الظَّاهرةُ هي الفروعُ، وهي كمالُ الإيمان، ولا يقف الأمر على مجرد كون القلب هو الأصل، بل إن أعمالَ القلوب هي التي تجعل الإنسان منطلقًا مندفعًا صابرًا على طاعة الله -سبحانه وتعالى- بالجوارح، ذلك أنه كلما عظم الإيمان في نفس الإنسان اندفع وانطلق بقوة أكبر في الطاعات، واجتهد في عبادة الله -سبحانه وتعالى- بالجوارح أيما اجتهاد، وهو ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ألا إنَّ في الجسَدِ مُضغةً، إذا صلَحت صلَحَ لها سائِرُ الجسَدِ، وإذا فسَدَت فسدَ لها سائرُ الجسَدِ، ألا وهي القَلبُ».

صلاح أعمال الجوارح

        ومن هنا نعلم يقينا هذه الحقيقةَ التي أخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن صلاح أعمال الجوارح متلازم تلازمًا تامًّا مع صلاح القلب، وفساده مرتبط بفساده، ولا يُتصوَّر أن إنسانًا يكون قلبه صالحًا عامرًا بالإيمان والتقوى ثم هو لا يأتي من أعمال الجوارح بشيء، ولا يمكن أن يكون إنسان مجتهدا غاية الاجتهاد في أعمال الجوارح ثم لا يكون في قلبه شيء من أعمال الجوارح، يقول الحافظ ابن رجب (795هـ) -رحمه الله-: «حركات القلب والجوارح إذا كانت كلُّها لله فقد كَمُلَ إيمانُ العبد بذلك ظاهرًا وباطنًا، ويلزمُ من صلاح حركات القلب صلاحُ حركات الجوارح، فإذا كان القلب صالحًا ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعثِ الجوارحُ إلا فيما يُريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكَفَّتْ عما يكرهه، وعما يخشى أنْ يكونَ مما يكرهه وإنْ لم يتيقن ذلك».

الإيمان قول وعمل ونية

         ومرد هذا التأصيل والتلازم أن الإيمان -كما دلت عليه النصوص وكما يقرر أهل السنة- قول وعمل ونية، وأن صلاح الباطن يتبعه ولا شك صلاح في الظاهر، وكلما ازداد صلاح الباطن كان ذلك زيادة في صلاح الظاهر، وهناك أدلة كثيرة أكدت هذا التلازم كحديث المضغة السابق، وكحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». ومن هنا نجد العز بن عبدالسلام يؤكد هذا قائلا: «مبدأ التكاليف كلها ومحلها أو مصدرها القلوب، والطاعات كلها مشروعة لإصلاح القلوب والأجساد، ولنفع العباد في الآجل والمعاد، إما بالتسبب أو بالمباشرة، وصلاح الأجساد موقوف على صلاح القلوب، وفساد الأجساد موقوف على فساد القلوب؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، أي: إذا صلحت بالمعارف ومحاسن الأحوال والأعمال صلح الجسد كله بالطاعة والإذعان، وإذا فسدت بالجهالات ومساوئ الأحوال والأعمال فسد الجسد كله بالفسوق والعصيان».

سبيل الفوز بالجنة

        ويكفي في بيان أهمية أعمال القلوب أنها هي سبيل الفوز بالجنة وعليها مدار الاعتقاد، فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر كلها أعمال مدارها على القلب، وهي عبادات قلبيَّةٌ، وبها يكون العبد مؤمنا ويمتاز عن الكافرين، وفي التأكيد على أهمية أعمال القلوب نجد من السلف من يقول: «لأنْ أبكي من خشية الله أحبُّ إليَّ من أنْ أتصدَّق بوزني ذهبًا».

العلامة الفارقة بين المؤمن والمنافق

        أضف إلى ذلك أن عمل القلب هو العلامة الفارقة بين المؤمن والمنافق، فالمنافق يأتي بأعمال الجوارح من صلاة وصدقة وحج وغيرها من أعمال الجوارح الظاهرة ولكن لا يُقبل منه شيء من عمله وإن عبَد وسَجد، لأنه خلوٌ من عمل القلب، بل قلبه مليء بالكفر بالله ومعاندته ومضاداته؛ ولذا قال -تعالى مبينا حال قلوبهم-: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء: 142)، ثم بين جزاءهم فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (النساء: 145).

به يفضل العمل ويتغير

         ومما يبين أهمية عمل القلب أن به يفضل العمل ويتغير وتصبح العادات عبادات يؤجر عليها الإنسان ويثاب وإن فعلها عادة، ومن ذلك أن يقصد بنومه وأكله وشربه التقوِّي على الطاعة والعبادة، وأن يقصد بإتيانه أهله التعفّف عن المحرمات ونحو ذلك، فقد جاء عند مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة»، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الأجر مترتبًا على نيته للحلال وتحرزه عن الحرام وإن كان الفعل من العادات والمباحات.

العزيمة المصمّمة على المعصية القلبية!

         ومما يدل على أهمية أعمال القلوب أيضًا أنَّ العزيمة المصمّمة على المعصية القلبية يُعاقب الإنسان عليها ولو فترت عزيمته عنها من غير سبب منه، بل يصل الحال إلى الكفر والنفاق، وقد فصَّل القول في ذلك الحافظ ابن رجب -رحمه الله-؛ حيث قال: «إن انفسخت نِيَّتُه، وفترَت عزيمتُه من غيرِ سببٍ منه، فهل يُعاقبُ على ما همَّ به مِنَ المعصية أم لا؟ هذا على قسمين:
  • القسم الأول: أن يكون الهمُّ بالمعصية خاطرًا خطرَ، ولم يُساكِنهُ صاحبه، ولم يعقِدْ قلبَه عليه، بل كرهه، ونَفَر منه، فهذا معفوٌّ عنه، وهو كالوَساوس الرَّديئَةِ التي سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنها، فقال: «ذاك صريحُ الإيمان.
  • القسم الثاني: العزائم المصمّمة التي تقع في النفوس وتدوم، ويساكنُها صاحبُها، فهذا أيضًا نوعان:
  • أحدهما: ما كان عملًا مستقلًّا بنفسه من أعمالِ القلوب، كالشَّكِّ في الوحدانية، أو النبوَّة، أو البعث، أو غير ذلك مِنَ الكفر والنفاق، أو اعتقاد تكذيب ذلك، فهذا كلّه يُعاقَبُ عليه العبدُ، ويصيرُ بذلك كافرًا ومنافقًا.
ويلحق بهذا القسم سائرُ المعاصي المتعلِّقة بالقلوب، كمحبة ما يُبغضهُ الله، وبغضِ ما يحبُّه الله، والكبرِ، والعُجبِ، والحَسدِ، وسوءِ الظَّنِّ بالمسلم من غير موجِب، مع أنَّه قد رُوي عن سفيان أنَّه قال في سُوء الظَّنِّ: إذا لم يترتب عليه قولٌ أو فعلٌ فهو معفوٌّ عنه. وكذلك رُوي عنِ الحسن أنه قال في الحسد، ولعلَّ هذا محمولٌ من قولهما على ما يجدُه الإنسانُ ولا يمكنهُ دفعُه، فهو يكرهُه ويدفعُه عن نفسه، فلا يندفعُ إلا على ما يساكِنُه، ويستروِحُ إليه، ويُعيدُ حديثَ نفسه به ويُبديه.
  • والنوع الثاني: ما لم يكن مِنْ أعمال القلوب، بل كان من أعمالِ الجوارحِ، كالزِّنى، والسَّرقة، وشُرب الخمرِ، والقتلِ، والقذفِ، ونحو ذلك، إذا أصرَّ العبدُ على إرادة ذلك، والعزم عليه، ولم يَظهرْ له أثرٌ في الخارج أصلًا. فهذا في المؤاخذة به قولان مشهوران».

الاهتمام بصلاح القلب

إذا أدرك المؤمن أهمية أعمال القلوب، فإن من أهم ما ينبغي أن يعتني به الاهتمام بصلاح قلبه وإعماره بالصالحات، بل وتفقد حاله وصلاحه بين الفينة والفينة، واجتناب مفسداته من الانغماس في المادية والانجرار وراء الأهواء والمشتهيات، وهو دور المؤمن مع نفسه، ودوره مع أهله وولده ومع مجتمعه المحيط به تذكيرهم بذلك، ويُروى في ذلك عن الحسن أن شابا مر به وعليه بردة له فدعاه فقال: «داوِ قلبك فإنّ حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك