أنواع من الفساد المالي بينتها السنـة النبـويـة (4) الفسـاد المالي في البيوع
يعد البيع من أوسع أبواب المعاملات المالية، التي يعتمد عليها قوام الحياة، ولما كانت النفس مجبولة على حب المال؛ فقد تطغى على صاحبها، وتنحرف عن السلوك القويم، رغبة في ربح المال وجمعه؛ لذا فلا عجب أن تكون الأسواق -وهي مجتمع الناس لتبادل البيع والشراء- أبغض الأماكن إلى الله -تعالى-، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها».
ويعلل هذا البغض نصيحة سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: «ألا تكونن -إن استطعت- أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منها؛ فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته».
ولما كانت النفس كذلك، وجدنا الشارع الحكيم يوجهها لما يصلح لها ويصح حالها، بالترغيب تارة، وبالترهيب أخرى، ومن هذه التوجيهات الصدق في البيوع والابتعاد عن الكذب، يدل عليه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإن صدقا وبينا، بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا، محقت بركة بيعهما». وقد بينت السنة النبوية القضايا التي تفسد البيع وتمحق بركة المال.
ومن أنواع الفساد المالي التي حذرت منها الأحاديث النبوية:
أولاً: الربا
وهو أبلغ أنواع الفساد المالي التي تقع في البيوع خطورة؛ لذا أبطله الإسلام، وعظم أمره، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279). وتألم النبي صلى الله عليه وسلم لحال أمته حينما تعاملت بنوع من الربا، يدل على ذلك أن بلالا - رضي الله عنه - جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمر برني؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أين هذا؟ فقال بلال: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك: «أوه، عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر بيعا آخر، ثم اشتر به».
قال ابن التين -رحمه الله-:٠«إنما تأوه ليكون أبلغ في الزجر، وقاله: إما للتألم من هذا الفعل، وإما من سوء الفهم»، وقال ابن حجر- رحمه الله-: وفي الحديث النص على تحريم ربا الفضل، وفيه أن صفقة الربا لا تصح.
وقد بينت السنة المشرفة بعض البيوع التي يقع فيها الربا، ونهت عنها، من ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الوَرِقُ بالذهب ربا ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء»، وقوله: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، البر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح: مثلا يمثل يدا بيد؛ فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء».
ثانيا: البيوع التي فيها غش للمبتاع
يعد الغش آفة من آفات البيوع، تستحل به الأموال بغير وجه حق، وبلا عوض مناسب؛ لذلك حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ من فاعله، ونفى عنه كمال الإيمان.
أنواع الغش
وأنواع الغش متعددة، والأحاديث الواردة في النهي عن الغش بدلالة المنطوق أو المفهوم صحيحة، منها ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر في السوق على صبرة طعام؛ فأدخل يده فيها؛ فنالت أصابعه بللا؛ فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: يا رسول الله، أصابته السماء، قال: «أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟! ثم قال: «من غشنا فليس منا»؛ لذلك قال عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: «لا يحل لامريء مسلم يبيع سلعة يعلم أن بها داء إلا أخبر به».
قال ابن هبيرة -رحمه الله-: وفي هذا الحديث: أن الإمام، أو من استنابه الإمام، إذا ارتاب أو شك، أن بعض الناس له يد عادية في غض المسلمين، أو اهتضام لحقوقهم، كان له أن يسأل في ذلك، وأن يبحث، وإن أدى سؤاله وبحثه أن يتصرف في مال المظنون به الغش من غير إذنه، تصرفا يتوصل به إلى كشف الغش والغل من غير إضرار، جاز له.
حرمة التصرية
ومنها قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصروا الإبل والغنم؛ فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعا من تمر»، وقال البخاري: والمصراة التي صري لبنها، وحقن فيه، وجمع فلم يحلب أياما، وأصل التصرية: حبس الماء، يقال منه: صريت الماء إذا حبسته. قال النووي -رحمه الله-: واعلم أن التصرية حرام، سواء تصرية الناقة، والبقرة، والشاة، والجارية، والفرس، الأتان، وغيرها؛ لأنه غش وخداع.
النجش
ومن صور الغش كذلك النجش: والنجش: أن تعطيه بسلعته أكثر من ثمنها، وليس في نفسك اشتراؤها؛ فيقتدي بك غيرك، قال البخاري: باب النجش، ومن قال لا يجوز ذلك البيع، وقال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربا خائن، وهو خداع باطل لا يحل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الخديعة في النار ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النجش».
ثالثا: بيع المحرمات من الأشربة والأطعمة وغيرهما
منعت الشريعة الإسلامية بيع المحرمات، والتحايل لبيعها، روى جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح بمكة: «إن الله ورسوله، حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام»؛ فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة؟؛ فإنها تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: «لا، هو حرام»، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك: «قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها أجملوه، ثم باعوه؛ فأكلوا ثمنه»، قال الخطابي -رحمه الله-: وفي هذا، بيان بطلان كل حيلة يحتال بها، توصل إلى محرم، وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته، وتبديل اسمه.
رابعا: البيوع التي فيها مخاطرة وغرر
نهت السنة النبوية عن كثير من البيوع التي فيها غرر أو مخاطرة؛ لما فيها من استحلال أموال الناس بغير حق، قال الباجي -رحمه الله-: هذه عقود مبنية على المعروف، والمواصلة دون المغابنة والمكايسة، التي لمضارعتها منع بيع الطعام قبل استيفائه؛ وذلك أنه منع لمشابهته العينة؛ فإذا وقعت هذه العقود على وجه الرفق، وعريت من المغابنة والمكايسة، كانت مباحة.
بيع الغرر
وقال النووي -رحمه الله- وأما النهي عن بيع الغرر فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع؛ ولهذا قدمه مسلم، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة: كبيع الآبق والمعدوم، والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وبيع بعض الصبرة مبهما، وبيع ثوب من أثواب، وشاة من شياه، ونظائر ذلك، وكل هذا بيعه باطل؛ لأنه غرر من غير حاجة.
الأحاديث الواردة في ذلك
ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نهى عن بيع الغرر»، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من اشترى طعاما، فلا يبعه حتي يستوفيه»، وقوله: «لا تبيعوا التمر حتى يبدو صلاحه، ولا تبيعوا التمر بالتمر»، وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - العلة من هذه الصورة: «إذا منع الله الثمرة، فبم تستحل مال أخيك»، ومنها كذلك ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبستين وعن بيعتين، ونهى عن الملامسة والمنابذة في البيع - صلى الله عليه وسلم - والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يقلبه إلا بذلك، والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر بثوبه، ويكون ذلك بيعهما عن غير نظر ولا تراض»، قال ابن بطال -رحمه الله-: وهو من بيع الغرر والقمار؛ لأنه إذا لم يتأمل ما اشتراه، ولا علم صفته، فلا يدري حقيقته، وهو من أكل المال بالباطل.
خامسا: الاحتكار
والاحتكار الشرعي هو الإمساك عن البيع، وانتظار الغلاء، والاستغناء عنه وحاجة الناس إليه، وهو سلوك يدل على أنانية مقيتة؛ ومما جاء في النهي عن الاحتكار قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحتكر إلا خاطئ»، وقوله: «من احتكر طعاما فهو خاطئ».
قال العلماء: والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس.
قال مالك -رحمه الله-: «وأما إذا قل الطعام في السوق؛ فاحتاج الناس إليه؛ فمن احتكر منه شيئا فهو مضر بالمسلمين؛ فليخرجه إلى السوق، وليبعه بما ابتاعه، ولا يزدد فيه؛ فعلى هذا القول تتفق الآثار، ألا ترى أن الناس إذا استوت حالتهم في الحاجة؛ فقد صاروا شركاء، ووجب على المسلمين المواساة في أموالهم؛ فكيف لا يمنع الضرر عنهم؟
لاتوجد تعليقات