أضواء من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6)-حكم الاستغاثة بالأموات
اقتبسها الشيخ صالح الفوزان
هذه القضية هي أخطر ما غُزِيَ المسلمون به من أسلحة الضلال؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية(1)- رحمه الله-: وإذا تبين ما أمر الله به ورسوله [، وما نهى الله عنه ورسوله [، في حق أشرف الخلق وأكرمهم على الله عز وجل، وسيد ولد آدم وخاتم الرسل والنبيين، وأفضل الأولين والآخرين، وأرفع الشفعاء منزلة، وأعظمهم جاها عند الله تبارك وتعالى تبين أن من دونه من الأنبياء والصالحين أولى بألا يشرك به، ولا يتخذ قبره وثناً يعبد، ولا يدعى من دون الله لا في حياته ولا في مماته، ولا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين مثل أن يقول: يا سيدي فلانا أغثني وانصرني، وادفع عني، أو أنا في حسبك، ونحو ذلك، بل كل هذا من الشرك الذي حرم الله ورسوله [، وتحريمه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام.
وهؤلاء المستغيثون بالغائبين والميتين عند قبورهم وغير قبورهم، لما كانوا من جنس عباد الأوثان صار الشيطان يضلهم ويغويهم، كما يضل عباد الأوثان ويغويهم، فتتصور الشياطين في صورة ذلك المستغاث به، وتخاطبهم بأشياء على سبيل المكاشفة، كما تخاطب الشياطين الكهان، وبعض ذلك صدق، لكن لا بد أن يكون في ذلك ما هو كذب، بل الكذب أغلب عليه من الصدق، وقد تقضي الشياطين بعض حاجاتهم وتدفع عنهم بعض ما يكرهونه؛ فيظن أحدهم أن الشيخ هو الذي جاء بالغيب حتى فعل ذلك، أو يظن أن الله تعالى صور ملكا على صورته فَعَل ذلك، ويقول أحدهم: هذا سر الشيخ وحاله. وإنما هو الشيطان تمثل على صورته ليضل المشرك به المستغيث به. كما تدخل الشياطين في الأصنام وتكلم عابديها وتقضي بعض حوائجهم، كما كان ذلك في أصنام مشركي العرب، وهو اليوم موجود في المشركين من الترك والهند وغيرهم.
وكذلك المستغيثون من النصارى بشيوخهم الذين يسمونهم العلامس، يرون أيضا من يأتي على صورة ذلك الشيخ النصراني الذي استغاثوا به، فيقضي بعض حوائجهم. وهؤلاء الذين يستغيثون بالأموات من الأنبياء والصالحين والشيوخ وأهل بيت رسول الله [ غاية أحدهم أن يجري له بعض هذه الأمور، أو يُحكى لهم بعض هذه الأمور؛ فيظن أن ذلك كرامة وخرق عادة بسبب هذا العمل، ومن هؤلاء من يأتي إلى قبر الشيخ الذي يشرك به ويستغيث به، فينزل عليه من الهواء طعام أو نفقة أو سلاح، أو غير ذلك مما يطلبه فيظن ذلك كرامة لشيخه، وإنما ذلك كله من الشياطين، وهذا من أعظم الأسباب التي عبدت بها الأوثان.
وقد قال الخليل عليه السلام: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس} (إبراهيم)، وكما قال نوح عليه السلام. ومعلوم أن الحجر لا يضل كثيرا من الناس إلا بسبب اقتضى ضلالهم، ولم يكن أحد من عباد الأصنام يعتقد أنها خلقت السموات والأرض، بل إنما كانوا يتخذونها شفعاء ووسائط لأسباب: منهم من صورها على صور الأنبياء والصالحين، ومنهم من جعلها تماثيل وطلاسم للكواكب والشمس والقمر، ومنهم من جعلها لأجل الجن، ومنهم من جعلها لأجل الملائكة. فالمعبود لهم في قصدهم إنما هو الملائكة والأنبياء والصالحون أو الشمس أو القمر وهم في الأمر نفسه يعبدون الشياطين، فهي التي تقصد من الإنس أن يعبدوها، وتظهر لهم ما يدعوهم إلى عبادتها؛ كما قال تعالى: {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} (سبأ: 40-41)، وإذا كان العابد ممن لا يستحل عبادة الشياطين أوهموه أنه إنما يدعو الأنبياء والصالحين والملائكة وغيرهم ممن يحسن العابد ظنه به.
وأما إن كان ممن لا يحرم عبادة الجن عرّفوه أنهم الجن، وقد يطلب الشيطان المتمثل له في صورة الإنسان أن يسجد له أو أن يفعل به الفاحشة، أو أن يأكل الميتة ويشرب الخمر، أو أن يقرِّب لهم الميتة. وأكثرهم لا يعرفون ذلك، بل يظنون أن من خاطبهم إما ملائكة وإما رجال من الجن يسمونهم: رجال الغيب. ويظنون أن رجال الغيب أولياء الله غائبون عن أبصار الناس، وأولئك جن تمثلت بصور الإنس، أو رؤيت في غير صور الإنس. وقال تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا} (الجن: 6)، وكان أحدهم إذا نزل بواد يخاف أهله قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، وكانت الإنس تستعيذ بالجن؛ فصار ذلك سببا لطغيان الجن، وقالت: الإنس تستعيذ بنا، وكذلك الرقى والعزائم الأعجمية تتضمن أسماء رجال من الجن يُدعون ويُستغاث بهم، ويقسم عليهم بمن يعظمونه، فتطيعهم الشياطين في بعض الأمور.
وهذا من جنس السحر والشرك؛ قال تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} (البقرة: 102)، وكثير من هؤلاء يطير في الهواء وتكون الشياطين قد حملته وتذهب به إلى مكة وغيرها، ويكون مع ذلك زنديقا يجحد الصلاة وغيرها مما فرض الله ورسوله [، ويستحل المحارم التي حرمها الله ورسوله [، وإنما يقترن به أولئك الشياطين؛ لما فيه من الكفر والفسوق والعصيان.
الهامش
(1) المجموع (1/359)
لاتوجد تعليقات