أضواء من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة (5)
حكم التوسل والاستغاثة
مالا يقدر عليه إلا اللـه لايستغاث به إلا باللـه، ولايستغاث بالمخلوق في ذلك لأنه شرك
كثير من المشركين بالغوا في إثبات الشفاعة حتى طلبوها من الأموات وبنوا على قبورهم القباب
اقتبسها فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان
هذه المسألة هي الشبهة التي يدلي بها هواة الشرك قديما وحديثا؛ فكان لابد من كشفها وبيانها؛ سئل - رحمه الله - عمن قال: تجوز الاستغاثة بالنبي[ في كل ما يستغاث الله تعالى فيه، على معنى أنه وسيلة من وسائل الله تعالى في طلب الغوث، وكذلك يستغاث بسائر الأنبياء والصالحين في كل ما يستغاث الله تعالى فيه، وأنه لا فرق بين الاستغاثة والتوسل، سواء قال: أتوسل إليك يا إلهي برسولك! أو أستغيث برسولك أن تغفر لي... إلى آخر السؤال الذي يدور على هذا المعنى.
فأجاب - رحمه الله - بقوله(1): الحمد لله رب العالمين، لم يقل أحد من المسلمين إنه يستغاث بشيء من المخلوقات في كل ما يستغاث الله فيه! لا بنبي ولا بملك ولا بصالح ولا غير ذلك، بل هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاقه، ولم يقل أحد إن التوسل بنبي هو استغاثة به؛ فإن المستغيث بالنبي[ طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعى ولا يطلب منه ولا يسأل وإنما يطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به، والاستغاثة طلب الغوث وهو إزالة الشدة، كالاستنصار طلب النصر، والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها كقوله تعالى: {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه} (القصص: 15).
وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يطلب إلا من الله؛ ولهذا كان المسلمون لا يستغيثون بالنبي[ ويستسقون به ويتوسلون به كما في (صحيح البخاري)(2) أن عمر - رضي الله عنه - استسقى بالعباس وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون.
ومراد الشيخ التوسل بدعائه بأن يدعو الله لهم بالغيث، وهذا جاء في حال كون الشخص حيا قادرا على الدعاء، وأما الميت فلا يتوسل به ولا يطلب منه دعاء ولا غيره؛ لأنه لا يقدر على شيء؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - بعد ذلك: فقد ذكر عمر - رضي الله عنه - أنهم كانوا يتوسلون بالنبي[ في حياته في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به هو استسقاؤهم به بحيث يدعو ويدعون معه، وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته ولا في مغيبه.
ثم قال(3) - رحمه الله-: من قال: ما لا يقدر عليه إلا الله لا يستغاث به إلا بالله، فقد قال الحق، يعني: ولا يستغاث بالمخلوق في ذلك لأنه شرك، وهذه هي التي قال بعضهم فيها: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وقال الآخر: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، وقد قال النبي[: «إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله»(4)، وقال لابن عباس: «إذا استعنت فاستعن بالله»(5)، وإذا نفى الرسول[ عن نفسه أمراً كان هو الصادق المصدوق في ذلك، كما هو الصادق المصدوق في كل ما يخبر به من نفي وإثبات، ومن رد خبره تعظيما له أشبه النصارى الذين كذبوا المسيح في إخباره عن نفسه بالعبودية تعظيما له؛ فنفى ما نفاه الرسول[ وليس لأحد أن يقابل نفيه بنقيض ذلك ألبتة.
يعني - رحمه الله - أن الرسول[ نفى أن يستغاث به فلا يجوز لنا أن نخالف نفيه ونستغيث به؛ لأن هذا معصية له ومعارضة له فيما قال.
وقد تحصل من كلام الشيخ - رحمه الله - أن الاستغاثة بالمخلوق على نوعين:
النوع الأول: الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه في حياته، فهذه جائزة كاستغاثة المظلوم بمن يناصره على ظالمه ويدفع عنه الظلم؛ كما قال تعالى عن كليمه موسى - عليه الصلاة والسلام -: {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه} (القصص: 15).
والنوع الثاني: الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ فهذه محرمة وهي شرك أكبر.
قال الشيخ - رحمه الله-: والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول[ - يعني في حياته- ما هو اللائق بمنصبه، لا ينازع فيها مسلم، وأما بالمعنى الذي نفاه الرسول[ فهو أيضا مما يجب نفيها، ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو كافر، إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها؛ ولهذا لا يعرف عن أحد من المسلمين أنه جوّز مطلق الاستغاثة بغير الله ولا أنكر على من نفى مطلق الاستغاثة عن غير الله.
قال: وقد يكون من كلام الله ورسوله عبارة لها معنى صحيح، لكن بعض الناس يفهم من تلك غير مراد الله ورسوله، فهذا يرد عليه فهمه، كما روى الطبراني في «معجمه الكبير» أنه كان في زمن النبي[ منافق يؤذي المؤمنين، فقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه-: قوموا بنا نستغيث برسول الله[ من هذا المنافق؛ فقال النبي[: «إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله»(6)، فهذا إنما أراد به النبي[ المعنى الثاني، وهو أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله.
الشفاعة
تكلم - رحمه الله - في موضوع الشفاعة وهو موضوع مهم؛ لأن الشفاعة ضلَّ في مفهومها كثير من الخلق قديما وحديثا؛ حيث فهمها أكثر الخلق على غير مفهومها الصحيح؛ فكثير من الشركين بالغوا في إثبات الشفاعة حتى طلبوها من الأموات، وبنوا على قبورهم القباب، وطافوا حولها، وذبحوا عندها، وملأوا صناديق النذور بالأمول التي هم بأمس الحاجة إليها.
الهوامش:
1 - المجموع (1/101).
2 - برقم (1010).
3 - المجموع: (1/106).
4 - رواه أبو داود (4726)، وأحمد (5/317) نحوه، والطبراني (1547) واستغربه ابن كثير.
قال الهيثمي (10/159): فيه ابن لهيعة وهو حسن الحديث.
5 - سبق وهو حديث حسن.
6 - هو الحديث قبل السابق وهو حديث حسن.
لاتوجد تعليقات