رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: محمود طراد 31 يناير، 2019 0 تعليق

أشهر تساؤلات العصرانيين الفكرية والرد عليها


انتهينا في المقال السابق بفضل الله -تعالى- إلى بيان موقف العصرانيين من مصادر الدين، وكيف تعارضت أفكارهم مع قول الله -تعالى-: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}، وقوله -تعالى-: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}، وتبين لنا كيف يقدم العصرانيون عقولهم على هذه المصادر؛ فيرفضون ما لا يوافقه العقل ولو كان صحيحاً، كحادثة سحر النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة في صحيح الحديث، واليوم نختم الحديث عن المدرسة العصرانية ببيان أهم تساؤلاتهم الفكرية مع الرد عليها إن شاء الله -تعالى .

 التساؤل الأول: لماذا تلزموننا بفهم السلف ومتابعتهم

     طالما أن المدرسة تدعو إلى العصرانية بمعناها الذي بيناه في المقال الأول؛ فالرجوع إلى الصدر الأول من الصحابة والتابعين وتابعيهم ما هو -في نظرهم- إلا نوع من التخلف عن ركاب الحضارة والتقدم والعصرانية، واتباع السلف في فهمهم وفكرهم عند هؤلاء ممنوع، أو إن شئت قل: عليه مجموعة كبيرة من الملاحظات، وبما أن العقل العصراني في نظرهم هو المفسر والمشرع والمستنبط؛ فلا حاجة عندئذ للعقل السلفي؛ لأنه لا يتناسب -حسب زعمهم- مع العصر الحديث.

الرد على التساؤل الأول

- أولاً: كانت النصوص القرآنية والنبوية صريحة في وجوب اتباع السلف في الفهم والفكر، ومنها قوله -تعالى-: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم}(التوبة: 100)، ووجه الدلالة أن الله -تعالى- أثنى على متّبعهم، وجعل له الجنة جزاء؛ فيجب أن يكون هذا المتبع محموداً، لا مذموماً، مقدماً لا متهما بالتخلف والرجعية.

- ثانيا: النصوص القرآنية توجب اتباع من هداهم الله -تعالى- وأنابوا إليه، ومن ذلك قوله -تعالى-: {واتبع سبيل من أناب إليّ}(لقمان: 15)، قال ابن قيم الجوزية: وكل الصحابة منيب إلى الله -تعالى-؛ فيجب اتباع سبيله، واعتقاداته من أكبر سبيله.

- ثالثاً: جعل الله -تعالى- موافقة إيمان الصحابة ميزاناً للهدى؛ فقال: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم}(البقرة: 137)، وهذه الموافقة أيضا كما جاء في الآية هي التي تجمع الأمة وتوحدها، ومخالفتهم سبيل النزاع والشقاق.

التساؤل الثاني: كيف ترفضون تغير الأحكام والزمان يتغير؟

     إذ يرى العصرانيون أن الصحابة -رضوان الله عليهم- قد غيروا بعض الفتاوى نظراً لتغير الظروف؛ فبات العصرانيون يربطون الأحكام بالمصلحة؛ فإن كان في الحكم مصلحة ثبت، وإن لم يكن؛ فعلينا تغيير الأحكام؛ لأنها لا تلبي مصلحة المجتمع -في زعمهم- .

الرد على هذا التساؤل

- أولاً: إن القاعدة المشهورة: (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان) قاعدة خاصة بالأحكام التي لا تستند إلى نص شرعي قطعي ثابت، بل التي تستند إلى عرف أو مصلحة سكتت عنها النصوص، أما ما نص عليه الشرع بأمر أو نهي قطعي فلا مجال لتغييره، والمصلحة فيه لا في مخالفته؛ فمخالفته تقتضي أن يكون هناك نسخ للحكم، وهذا ممتنع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الإمام ابن تيمية -رحمة الله-: «ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته شرعاً لازما إنما لا يمكن تغييره؛ لأنه لا يمكن نسخه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يجوز أن يظن بأحد من علماء المسلمين أن يقصد هذا، ولاسيما الصحابة، وخصوصاً الخلفاء الراشدون»، وأكثر ما يستخدم العصرانيون هذه القاعدة فيه الأحكام الثابتة في ملف المرأة والمعاملات مع غير المسلمين وبعض الأحكام الاقتصادية، وقد ترى بعضهم يجيز تعاملاً ربوياً؛ لأنه يحقق مصلحة مجتمعية بحجة أن الأحكام تتغير بتغير الزمان!

أمثلة على أحكام تتغير بتغير الزمان

     ينبغي التأكيد على أن هذه الأحكام هي الاجتهادية التي لا نص فيها، التي تدور مع مصالح الناس دون مخالفة قاعدة كلية أو جزئية في نص آخر، ومنها: تقسيم المهر إلى معجل ومؤجل في الزواج إذا لم يتم النص عليه في العقد؛ فيرجع بذلك إلى العرف، قال الإمام القرافي المالكي -رحمه الله-: «إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد، خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة»؛ فالأمر المتعلق بالعادات غير الشرعية هو الذي يتغير، أما ما تعلق بعادة شرعية -أي فيها نص- مثل عادة التطهر من النجاسات؛ فلا سبيل إلى تغيير أحكامها، نص على ذلك الإمام الشاطبي أيضا، ومنها أيضا: إعطاء البائع والمشتري خيار الرد للبيع حكم ثابت لا يتبدل، لكن أسباب الرد مما يعد أو لا يعد عيباً؛ فهذا يتغير بتغير الزمان والمكان.

التساؤل الثالث: ما معنى إذا وجدت المصلحة فثم شرع الله

     دائما ما يستدل التنويريون والعصرانيون! بهذه القاعدة؛ إذ يرون منها دليلاً على الحكم يتغير بمجرد ظهور مصلحة للإنسان في ذلك، وينسبون هذه المقالة للإمام ابن القيم -رحمه الله-، وبالرجوع إلى كلام الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه (إعلام الموقعين)، تجد أنه يتحدث عن اختلاف العلماء في حكم العمل بالسياسة، وما هذه السياسة؟ فيقول -رحمه الله تعالى-: فإذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان؛ فثم شرع الله ودينه.

 والكلام عن أمور السياسة التي نص فيها، لا عن الأحكام كما يزعم العصرانيون.

تعقيب على الفهم المغلوط للقاعدة

- أولاً إن شرع الله -عز وجل- يبحث عنه في النصوص القرآنية والنبوية لا في المصالح، قال -تعالى-: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}(البقرة: 2)، وقال -تعالى-: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}(الإسراء: 9).

- ثانياً: تتغير المصالح بتغير الناس وتتعارض فمع أي المصالح يكون الحكم؟ وكما يقال: مصائب قوم عند قوم فوائد؛ لذا فلا يمكن بحال استخراج الأحكام بناء على المصالح المتعارضة.

- ثالثاً: المصلحة المتعارضة مع النص الشرعي ليست مصلحة، وإنما هي إثم كبير محرم، مثال ذلك: حرم الله -تعالى- الربا وقال عنه: {وأحل الله البيع وحرم الربا}(البقرة: 275)؛ فهل يجوز إباحة صورة من صور الربا بناء على تحقيق مصلحة ما بعد هذا النص الصريح القاطع؟ وكيف تكون المصلحة في الوقوع في الحرام ومخالفة الأمر أو النهي؟

التساؤل الرابع لماذا تهملون الأمر بالتدبر في القرآن؟

     يرى العصرانيون أن الأمر بالتدبر في القرآن الكريم دليل شرعي على مذهبهم، وأنهم يتمثلون هذا الأمر بإعادة النظر في القرآن لاستخراج الأحكام وصناعة التفاسير المناسبة للزمان والمكان والجديدين، وللرد على هذا التساؤل نقول: لا ينكر مسلم أن الله -تعالى- أمر بتدبر آيات القرآن في مثل قوله -تعالى-: {كتاب أنزلناه إليه مبارك ليدبروا آياته، وليتذكر أولوا الألباب}(ص: 29)، وقوله -تعالى-: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}(محمد: 24).

- ثانيا: إن التدبر الذي أمر الله -تعالى- به كان لغاية الاستنباط؛ فما ثبت عن الأولين من استنباط لحكم في القرآن؛ فهو المراد من الآية، وعندئذ لا يسوّغ مخالفته، بينما كان التابعون يستنبطون من الأحكام مالم يذكره الصحابة، أما ما استنبطوه من الأحكام مما أجمعوا عليه، أو لم ينقل عنهم فيه خلاف، فكيف يكون التدبر الصحيح في مخالفته؟ وأما ما اختلفوا فيه؛ فالاجتهاد يقع في اختيار ما هو أقرب منه إلى الصواب.

من هنا، فإن النزعة العصرانية التي لا تلتزم بما كان عليه السلف من الصحابة والتابعين مخالفة لأوضح النصوص، وينبغي علينا الحذر من تسؤلاتهم المشككة، وتعلم تلك الردود ونشرها حماية لأمتنا من الزيغ، والله -تعالى- أعلم.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك