رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: هناء الأيوب 30 ديسمبر، 2018 0 تعليق

أسود وأبيض

لو قلبنا النظر في كل ما يحيط بنا من أمور لوجدنا أن التمايز بين الأشياء غالبا ما يكون نعمة؛ فكثيرا ما يولِّد الاختلاف الانسجام، وينتج عن التضاد الائتلاف؛ فالتضاد بين الأشياء المتقاربة، غالبا ما يضفي عليها منظرا ملفتًا ورونقا مميزًا؛ فجميلة هي الألوان المختلفة إذا ما تداخلت مع بعضها وتمازجت؛ فالأبيض لون جميل، فهو شعار الصفاء والطيبة، ولكن جماله حتمًا يزداد حينما يقترب من ضده، ويتداخل قليلا مع عكسه، وهو اللون الأسود دون أن يذوب فيه؛ فيشكلان تجانسا فريدًا، ويجري ذلك على كثير من الأشياء مع أضدادها؛ فالليل لا ينفك عن النهار، والنور لا يحلو إلا بالظلام، قال -جل وعلا-: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ»(آل عمران: 190).

     وكما أن الأشياء المختلفة حولنا تحلو في حال تمازجها؛ فإن ذلك يجري على بعض أحوال الإنسان، حين تشكل بعض المتضادات لديه ائتلافا ماتعًا، وتكاملا رائعًا؛ فجميل أن يكون حال المرء متناوبًا بين الجد والمرح، والحركة والسكون، والكلام والصمت، والنوم واليقظة، بل إن الإنسان غالبًا لا تطيب حياته، ولا يرتقي بذاته، إلا في ظل ظروف الحياة المختلفة، وأثناء تعامله مع أنماط الشخصيات المتمايزة، بشرط أن يكتسب مهارة حسن التعامل مع المتضادات؛ فمثلًا بالرغم من أن الفشل عكس النجاح، إلا أن الفشل قد يكون أقوى دافعًا للنجاح لمن فطن لذلك، وهذه القاعدة سارية على التعاملات والعلاقات الإنسانية كافة؛ ففي العلاقات الأخوية، أو الصداقات قد نرى توافقا وانسجاما بين شخصين، بالرغم من الاختلاف التام بينهما؛ فيُبدي كل منهما للآخر تغاضيًا عن الزلات، وتجاوزًا عن السلبيات، مع إظهار الود والاحترام، والتعبير عن الحب والامتنان.

     ولو كان من المستحيل على الإنسان الانسجام إلا مع شبيهه في الشخصية، والميول، والاهتمامات، لسار الناس فرادى دون أصحاب، ولَتفرَّق الإخوة ولما تعارف الأحباب،  ولكن اقتضت حكمة الله -تعالى- أن يختلف الناس ليتعارفوا، ويتباينوا ليتجاذبوا، ويتمايزوا ليتآلفوا، لقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(الحجرات: ١٣).

 العلاقات الزوجية

     أما على مستوى العلاقات الزوجية؛ فليس شرطا وجود التشابه بين الزوجين في طريقة التفكير - أو الاهتمامات - أو الطباع، ليسعدا، بل قد يؤدي اختلافهما في بعض ذلك إلى توافقهما وتجاذبهما، كتجاذب القطبين المختلفين في المغناطيس، إن الله -تعالى- خلق الذكر والأنثى، وقضى أن يكونا مختلفين تماما في الخَلْق ليتكاملا، وفي طريقة التفكير لينسجما؛ فيتحقق الائتلاف بينهما والتناغم، وتلك هي السعادة الزوجية.

     بل قد يرى أحد الزوجين ما يكره في شريك حياته؛ فيصبر على ذلك، ويتغافل عنه؛ فلربَّما يأتيه الخير من ذلك الجانب الذي كرهه؛ فيحمد الله عليه، لقوله -تعالى-: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}(النساء: 19).

      فلا يبتئس أحد الزوجين إذا ما وجد اختلافا بينه وبين شريك حياته، وليعلم أن الله -عزوجل- أراد ذلك لحكمة جليلة علمناها أم جهلناها؛ فالتشابه بين الزوجين في الميول، والطباع، وطريقة التفكير، وأسلوب التعامل، وغير ذلك، قَلَّما يتوفر في شركاء الحياة، كما أن هذا التشابه ليس عاملا مُهِماًّ لتحقيق السعادة الزوجية، بل السعادة الحقيقية تكمن في أن يعرف كل شريك كيف يعزز نقاط التشابه، ويطوع أوجه الاختلاف مع شريكه لصالح زواجهما، ليكون كل منهما سكنًا للآخر، ومصدرا للراحة والاستقرار، وفي ذلك قال -جل وعلا-: {وَمِنْ آياتهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إليها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(الروم: 12)، وفي هذه الآية إشارة لطيفة إلى تعدد مقاصد استمرار العلاقة الزوجية واستقرارها؛ مما يدعونا إلى التدبر والتفكر في هذه النعمة العظيمة.

 مودة ورحمة

     ومن تمام رحمته -سبحانه وتعالى- ببني آدم، أن جعل أزواجهم من جنسهم، وجعل بينهم مودة: وهي المحبة، ورحمة: وهي الرأفة؛ فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمته بها بأن يكون لها منه ولد، أو محتاجة إليه في الإنفاق، أو للألفة بينهما، وغير ذلك» (ابن كثير. تفسير القرآن العظيم)، وهناك بعض الأسرار التي تحيط بالحياة الزوجية تساعد كلا من الزوجين على التوجيه الإيجابي لمشاعره تجاه الآخر، ومن ثمَّ التحكم في ردود أفعاله أثناء تعامله معه، وذلك وفق نتائج بحث أُجريَ حول طبيعة كل من الرجل والمرأة التي أكدت التالي: «وجود اختلاف شاسع بينهما في طريقة التفكير الفطري، وفهم الأمور، ناتج عن اختلاف فسيولوجي تشريحي في تركيبة المخ، ومن أهم تلك النتائج أن الفص الأيمن المختص بالعواطف والمشاعر والوجدان، يعمل عند المرأة بكفاءة الفص الأيسر المختص بالمنطق والتحليل والاستنتاج نفسه، بينما يصعب ذلك على الرجل الذي يتفوق لديه عمل الفص الأيسر في المخ، عن الفص الأيمن فطريا، فضلًا عن صعوبة تشغيلهما في آن واحد».

 حال الأم

فالأم مثلا، غالبًا يمكنها أن ترضع رضيعها وتمسح على رأسه وتقبل يده، وفي الوقت ذاته تفكر في حل لغز أو مسألة رياضية، في حين أن الأب غالبًا لا يستطيع إظهار الحنان أو العاطفة أثناء معالجته لمسألة عقلية، أو إصلاح عطل، أو انتقاده لوضع ما.

 التعبير عن العواطف

     وهذا السر الكامن وراء عدم قدرة كثير من الأزواج على التعبير عن عواطفه تجاه الزوجة إذا ما دخل البيت منهكا من عمله، فوجد وضعا لا يرتضيه، كأن تكون قطعة من الأثاث وضعت في غير مكانها بالخطأ، أو أزعجه صوت الزوجة وهي تعنف أحد الأبناء، الذي يمنعه من ذلك هو الكفاءة العالية التي يعمل بها الفص الأيسر في المخ لديه مقارنة بكفاءة الفص الأيمن؛ فيبدأ أولًا بانتقاد الوضع الراهن المخالف للمنطق والعقل، وإبداء الضيق وعدم الارتياح، وقد يلبس رداء الصمت، كابتا ضيقه، متوجها إلى فراشه، معلنا الامتناع عن الطعام والابتسام، تاركا الزوجة المسكينة متعطشة لكلمة طيبة، أو بسمة لطيفة، أو لمسة حانية، أو حتى نظرة إعجاب بفستانها الجميل، أو تسريحة شعرها الجديدة، وهكذا تتكرر المشاهد اليومية بممارسة كل من الزوجين لطبيعته التي خلقه الله عليها، وسط جهلٍ أو تجاهل كلٍّ منهما للحاجة الفطرية لشريك حياته وطبيعته الخَلْقية.

 منشأ المشاجرات

     وعادة ما يكون ذلك  هو أساس ومنشأ المشاجرات والمناوشات الكلامية، التي قد تتطور إلى يدوية لدى بعض الأسر! والعلاج هو أن يتفهم كل من الزوجين تلك الاختلافات الفطرية بين الجنسين في خلق المخ  وتركيبه، وبالتالي يبدي الإعذار لردود أفعال شريكه، والاعتذار عن الأخطاء الشخصية؛ فيتم فهم النفسيات بينهما، ويراعي كل منهما الآخر، ويغض الطرف عن زلاته وسقطاته؛ فيسود بينهما مبدأ التغافل والتغاضي، ويقل التلاوم، ويحاول كل منهما إرضاء الآخر حتى ولو كان ذلك على حساب مخالفة الطبيعة المعتاد عليها في التفكير، وتلك مهارات قد يمتلكها بعضهم فطريّا، ولكنها حتمًا قد تكتسب بالتدريب والتعلم.

 اختلاف الرجل عن المرأة

 وقد أكد الخالق -جل في علاه- اختلاف الرجل عن المرأة في جوانب كثيرة، وذلك في قوله  -تعالى-: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}(آل عمران: 36)، كما ورد في السنة الصحيحة ما يؤكد ذلك، حيث وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم الزوجين للتغاضي عن الاختلافات، والتغافل عن السلبيات، بقوله: «لا يفرك (أي لا يكره) مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها بآخر» رواه مسلم.، وذكر الشيخ السعدي فائدتين عظيمتين في هذا الحديث، «إحداهما: الإرشاد إلى معاملة الزوجة والقريب والصاحب والعامل، وكل من بينك وبينه علاقة واتصال، وأنه ينبغي أن توطن نفسك على أنه لابد وأن يكون فيه عيب أو نقص، أو أمر تكرهه؛ فإذا وجدت ذلك فقارن بين هذا وبين ما يجب عليك، أو ينبغي لك من قوة الاتصال، والإبقاء على المحبة، بتذكر ما فيه من المحاسن، والمقاصد الخاصة والعامة، وبهذا الإغضاء عن المساوئ وملاحظة المحاسن  تدوم الصحبة والاتصال، وتتم الراحة، وتحصل لك الفائدة الثانية، وهي زوال الهم والقلق، وبقاء الصفاء، والمداومة على القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة، وحصول الراحة بين الطرفين» الشيخ عبدالرحمن السعدي، الوسائل المفيدة للحياة السعيدة. 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك