رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وليد دويدار 7 أغسطس، 2012 0 تعليق

أســـرار الصـــوم ودرجات الصائمين

الحمد لله الذي أعظم على عباده المنة، بما دفع عنهم كيد الشيطان وفنه، ورد أمله وخيب ظنه؛ إذ جعل الصوم حصنا لأوليائه وجُنة، وفتح لهم به أبواب الجنة، وعرّفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات المستكنة، وأنّه بقمعها تصبح النفس المطمئنة ظاهرة الشوكة في قصم خصمها قوية المنّة، والصلاة على محمد قائد الخلق وممهد السنّة وعلى آله وأصحابه ذوي الأبصار الثاقبة والعقول المرجحة وسلم تسليما كثيراً، أما بعد:

      فإن الصوم متميز بخاصية النسبة إلى الله تعالى من بين سائر الأركان؛ إذ قال الله تعالى فيما حكاه عنه نبيه[: «كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ، وَالصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» روه أحمد والترمذي وغيرهما وصححه الألباني.

      وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10)، والصوم نصف الصبر فقد جاوز ثوابه قانون التقدير والحساب، وناهيك في معرفة فضله قوله[: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَذَرُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، فَالصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» جزء من الحديث السابق، واللفظ لأحمد. وقال[: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَد» متفق عليه واللفظ للبخاري. وهو موعود بلقاء الله تعالى في جزء صومه، قال[: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ» متفق عليه، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه[ قال: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» متفق عليه واللفظ لمسلم. وقال وكيع في قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (الحاقة: 24): هي أيام الصيام إذ تركوا فيها الأكل والشرب.

      وقيل في قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: 17)، قيل: كان عملهم الصيام؛ لأنه قال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10)، فيفرغ للصائم جزاؤه إفراغاً، ويجازف جزافاً، فلا يدخل تحت وهم وتقدير، وجدير بأن يكون كذلك؛ لأن الصوم إنما كان له، ومشرفا بالنسبة إليه، وإن كانت العبادات كلها له كما شرف البيت بالنسبة إلى نفسه، والأرض كلها له؛ لمعنيين:

       أحدهما: أن الصوم كف وترك، وهو في نفسه سر ليس فيه عمل يشاهد، وجميع أعمال الطاعات بمشهد من الخلق ومرأى، والصوم لا يراه إلا الله عز وجل فإنه عمل في الباطن بالصبر المجرّد.

       والثاني: أنه قهر لعدو الله عز وجل، فإن وسيلة الشيطان لعنه الله الشهوات؛ وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب؛ ولذلك قال[: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» متفق عليه واللفظ للبخاري.

      فلما كان الصوم على الخصوص قمعاً للشيطان، وسداً لمسالكه وتضييقاً لمجاريه، استحق التخصيص بالنسبة إلى الله عز وجل، ففي قمع عدو الله نصرة لله سبحانه، وناصر الله تعالى موقوف على النصرة له، قال الله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7)، فالبداية بالجهد من العبد والجزاء بالهداية من الله عز وجل؛ ولذلك قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت: 69)، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11)، وإنما التغير تكثير الشهوات فهي مرتع الشياطين ومرعاهم فما دامت مخصبة لم ينقطع ترددهم وما داموا يترددون لم ينكشف للعبد جلال الله سبحانه وكان محجوبا عن لقائه.

والصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص.

 فأما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.

وأما صوم الخصوص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام.

      وأما صوم خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الهِمم الدنيّة والأفكار الدنيويّة وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية، وهذه رتبة الأنبياء والصديقين والمقربين ولا يطول النظر في تفصيلها قولا ولكن في تحقيقها عملا؛ فإنه إقبال بكنه الهمة على الله عز وجل وانصراف عن غير الله سبحانه وتلبس بمعنى قوله عز وجل: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام:91).

وأما صوم الخصوص وهو صوم الصالحين فهو كف الجوارح عن الآثام وتمامه بستة أمور:

 الأول: غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله عز وجل.

الثاني: حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن فهذا صوم اللسان، وقد قال سفيان: «الغيبة تفسد الصوم». وروى ليث عن مجاهد: خصلتان يفسدان الصيام: الغيبة والكذب، وقال  صلى الله عليه وسلم: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلاَ يَجْهَلْ وَلاَ يَرْفُثْ، فَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إنِّي صَائِمٌ إنِّي صَائِمٌ» متفق عليه واللفظ للبخاري.

      الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه، ولذلك سوّى الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت، فقال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (المائدة: 42)، وقال عز وجل: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (المائدة: 63)، فالسكوت على الغيبة حرام، وقال تعالى: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (النساء:140).

      الرابع: كفُّ بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار، فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام، فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصرا ويهدم مصرا فإن الطعام الحلال إنما يضر بكثرته لا بنوعه فالصوم لتقليله، وتارك الاستكثار من الدواء خوفا من ضرره إذا عدل إلى تناول السم كان سفيها، والحرام سم مهلك للدين والحلال دواء ينفع قليله ويضر كثيره وقصد الصوم تقليله، وقد قال [: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ» رواه أحمد، فقيل هو الذي يفطر على الحرام، وقيل هو الذي يمسك عن الطعام الحلال ويفطر على لحوم الناس بالغيبة وهو حرام، وقيل هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام.

      الخامس: ألا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه، وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره؟! وربما يزيد عليه في ألوان الطعام حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر. ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى. وإذا دفعت المعدة من ضحوة نهار إلى العشاء حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها ثم أطعمت من اللذات وأشبعت؛ زادت لذتها وتضاعفت قوتها وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها.

      فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم، فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلا فلن ينتفع بصومه، بل من الآداب ألا يكثر النوم بالنهار حتى يحس بالجوع والعطش ويستشعر ضعف القوى فيصفو عند ذلك قلبه، ويستديم في كل ليلة قدرا من الضعف حتى يخف عليه تهجده وأوراده، فعسى الشيطان ألا يحوم على قلبه. فينظر إلى ملكوت السماء.

      ومن جعل بين قلبه وبين صدره مخلاة من الطعام فهو عنه محجوب، ومن أخلى معدته فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب ما لم يخل همته عن غير الله عز وجل، وذلك هو الأمر كله ومبدأ جميع ذلك تقليل الطعام.

      السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء؛ إذ ليس يدرى أيُقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين. وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها؛ فقد روى عن الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون، فقال: إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه لطاعته فسبق قوم ففازوا وتخلف أقوام فخابوا فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب وحسرة المردود تسد عليه باب الضحك.

       وعن الأحنف بن قيس أنه قيل له: إنك شيخ كبير وإن الصيام يضعفك!! فقال: إني أعده لسفر طويل والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه.

      فهذه هي المعاني الباطنة في الصوم، المقصود من الصوم التخلق بخلق من أخلاق الله عز وجل وهو الصمدية والاقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات بحسب الإمكان فإنهم منزهون عن الشهوات والإنسان رتبته فوق رتبة البهائم لقدرته بنور العقل على كسر شهوته، ودون رتبة الملائكة لاستيلاء الشهوات عليه، وكونه مبتلى بمجاهدتها، فكلما انهمك في الشهوات انحط إلى أسفل السافلين والتحق بغمار البهائم، وكلما قمع الشهوات ارتفع إلى أعلى عليين والتحق بأفق الملائكة، والملائكة مقربون من الله عز وجل، والذي يقتدى بهم ويتشبه بأخلاقهم يقرب من الله عز وجل كقربهم فإن الشبيه من القريب قريب وليس القرب بالمكان بل بالصفات.

       وإذا كان هذا سر الصوم عند أرباب الألباب وأصحاب القلوب؛ فأي جدوى لتأخير أكلة وجمع أكلتين عند العشاء مع الانهماك في الشهوات الآخر طول النهار؟! ولو كان لمثله جدوى فأي معنى لقوله [: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ» رواه أحمد؟! ولهذا قال أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف لا يعيبون صوم الحمقى وسهرهم؟!، ولذرة من ذوي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين.

       ولذلك قال بعض العلماء: كم من صائم مفطر، وكم من مفطر صائم. والمفطر الصائم هو الذي يحفظ جوارحه عن الآثام ويأكل ويشرب، والصائم المفطر هو الذي يجوع ويعطش ويطلق جوارحه.

      ومن فهم معنى الصوم وسره علم أن مثل من كف عن الأكل والجماع وأفطر بمخالطة الآثام كمن مسح على عضو من أعضائه في الوضوء ثلاث مرات، فقد وافق في الظاهر العدد إلا أنه ترك المهم وهو الغسل فصلاته مردودة عليه بجهله، ومثل من أفطر بالأكل وصام بجوارحه عن المكاره كمن غسل أعضاءه مرة مرة فصلاته متقبلة إن شاء الله لإحكامه الأصل وإن ترك الفضل، ومثل من جمع بينهما كمن غسل كل عضو ثلاث مرات فجمع بين الأصل والفضل وهو الكمال.

      فإذاً قد ظهر أن لكل عبادة ظاهراً وباطناً، وقشراً ولباً، ولقشرها درجات ولكل درجة طبقات. فإليك الخيرة الآن في أن تقنع بالقشر عن اللباب أو تتحيز إلى غمار أرباب الألباب.

والحمد لله بجميع محامده كلها ما علمنا منها وما لم نعلم، على جميع نعمه كلها ما علمنا منها وما لم نعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وكرم.

 

الهوامش:

1 -باختصار وتصرّف من كتاب أسرار الصوم من كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي – رحمه الله تعالى - ( ت 505هـ). رم

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك