رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان 14 مايو، 2023 0 تعليق

أسباب هلاك الأمم

 

من واجب الإنسان أن يكون دائم الاعتبار بالأمم الخالية، والأجيال الغابرة، يتفكَّر في أحوالهم، ويتَّعظ بما حلَّ بهم من العقاب والنكال؛ فإنَّ لهلاك الأمم أسبابًا كثيرةً جَرت سُنَّة الله -تعالى- في عباده عند وجودها أن يهلكهم بسببها، وأهم هذه الأسباب: الكفر بالله -عز وجل-، وجحود وحدانيته، وتكذيب دعوة الرسل -عليهم السلام-، والظلم، والطغيان، والإجرام، وشيوع الفواحش.

     وهناك أسباب أخرى بيَّنها لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنها الاختلاف في كتاب الله، والتنازع في مُشكله، وما استأثر الله بعلمه، روى مسلم في الصحيح عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: جئت مبكرًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعرف في وجهه الغضب، فقال: «إنما أهلك من كان قبلكم باختلافهم في هذا الكتاب»، وروى البخاري ومسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تختلفوا! فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا».

الأشر والبطر وجحود النعم

     ومن أسباب الهلاك: الأشر والبطر وجحود النعم؛ فالأشر والبطر مظهر لجحود النعمة، وبادرة لسوء المصير، ولقد كان فيما قصَّ الله -تعالى- في كتابه عن قارون وقد آتاه من كنوز المال ما قابله بالأشر والبطر، وكان له سوء المصير: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ...} (القصص:76)، وإنها لعبرة الدهر، في قرآن يتلى، تذكر بسوء المصير لكل من طغى وبغى، وجحد نعمة المولى -جل وعلا.

التنافس في الدنيا

ومن أسباب الهلاك: التنافس في الدنيا، والرغبة فيها، والمغالبة عليها، وحب التفاخر والتكاثر؛ فعن عمرو بن عوف الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، فسمِعَت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآهم، ثم قال: «أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟»، فقالوا: أجل يا رسول الله، قال: «فأبشروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبْسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم؛ فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم» رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه، فالتنافس على الدنيا وجمع مالها وحب الاستئثار به من أسباب الهلاك؛ لأنه يؤدي إلى إضمار الأحقاد والأضغان، ثم الحسد، ثم العداوة والمدابرة.

الشحُّ بالمال والضنُّ به

     ومن أسباب الهلاك: الشحُّ بالمال، والضنُّ به، والاستبداد بكنزه، ومنع حقوق الله -تعالى-، وحقوق عباده، فإنَّ ذلك من أسباب هلاك الأمم، وخراب الشعوب، روى أحمد والبخاري في الأدب ومسلم عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا الظلم! فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح! فإنَّ الشحَّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم».

     وروى أبو داود والحاكم عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : «إيَّاكم والشحَّ! فإنما هَلَك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا»، والشح هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على أن يأخذ الأشياء من غير حلها، ولا يقنع بما أحل الله له.

ظهور الربا وانتشار الزنا وتعاطي الرشوة

     ومن أسباب هلاك الأمم وفساد المجتمعات: ظهور الربا، وانتشار الزنا، وتعاطي الرشوة، روى الإمام أحمد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله -عز وجل-»، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} (البقرة:279).

     وجريمة الربا ليست قاصرة على مُتعاطيه، بل هي عامًّة في كل من يُشارك فيه، روى مسلم عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه -، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه، هم فيه سواء».

من الجرائم الخطيرة

     أما الزنا: فهو من الجرائم الخطيرة التي تُسبِّب الخراب والدمار، والواقع المشاهد المحسوس يصدق ذلك؛ حيث انتشرت الأمراض التي لم تكن فيما مضى، كما يقول - صلى الله عليه وسلم -: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم».

الرشوة من موجبات العقاب

     وأما الرشوة فإنها من موجبات العقاب، ومن أسباب نشر الظلم والجور وهضم حقوق الناس، روى أحمد عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أُخِذُوا بالسنين، وما من قوم يظهر فيهم الرِّشا إلا أخذوا بالرعب»، والرِشا جمع رشوة، وهي ما يعطيه الشخص للحاكم أو لغيره ليحكم له ضد خصمه بالباطل، وفي هذا المعنى يقول -تعالى-: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة:188)، روى أحمد وأبو داود والترمذي عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: «لعن رسول الله -[- الراشي والمرتشي»، وفي رواية: «والرائش بينهما».

البخس في الكيل والميزان ومنع الزكاة

     ومن أسباب الهلاك: البخس في الكيل والميزان، ومنع الزكاة، ونقض العهود، وعدم تنفيذ أحكام الله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ بِالقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (هود:84-85)، {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (هود:94).

     وقد وعد الله المطففين بالهلاك والعذاب الشديد، فقال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطَّففين:1-3)، أي: هلاكٌ وعذابٌ شديد من الله للَّذين ينقصون المكيال والميزان، الذين إذا اكتالوا من الناس استوفوا لأنفسهم الكَيْل والوزن تاماً غير ناقص، وإذا كالوا لغيرهم أو وزنوا لهم، ينقصون الكيْل والوزن، فيعطونهم عن طريق التلاعب بالكيل أو الوزن أقلَّ من حقهم.

      وقد جاءت الأحاديث تحذر من النقص والتطفيف في الكيل والميزان، ومنع حقوق الله -تعالى-، وحق عباده من الزكاة، وترهب من نقض عهود الله ومواثيقه، والإعراض عن تنفيذ أحكام الله، روى ابن ماجه والحاكم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهنَّ، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا الكيل والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجوْر السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله -عز وجل- إلا جعل الله بأسهم بينهم». فهذه خمس خصال توجب كل واحدة منها نوعاً أو أكثر من العذاب.

ظهور المعاصي وانتشارها

     ومن أسباب الهلاك: ظهور المعاصي وانتشارها في المجتمع الإسلامي مع سكوت الناس عن تغييرها؛ لأن المعصية إذا أعلنت دبَّ بلاؤها إلى العامَّة والخاصَّة، ولم يبقَ وبالها مُقتصراً على مُرتكبها، يقول الله -تعالى-: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال:25). أي: احذروا أيها المؤمنون عقابًا مُؤْلمًا لكم، لا يَقْتَصِرُ على إصابة الظالمين منكم فقط، بل يعُمُّ الظالمين وغيرهم، فيكون للظالمين عقابًا، ويكون لغير الظالمين امتحانًا واختبارًا، أو تربية وتأديبًا، واعلموا علماً جازمًا أنَّ الله شديد العقاب؛ فاتقاء الفتنة يكون بالكفِّ عن الذنوب، والأخذ على يد المجاهرين بالمعاصي.

      قال -تعالى-: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الأعراف:164-165).

     روى أحمد عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: «إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمَّهم الله بعذاب من عنده»، فقلت: يا رسول الله أما فيهم الصالحون؟ قال: «بلى»، قلت: فكيف يصنع بأولئك؟ قال: «يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان»، فالسكوت عن المعاصي من مُوجبات العقاب والهلاك، لأن السكوت عنها يغري أصحابها على التمادي فيها واستفحال أمرها وانتشارها، وهذا الجانب من أسباب العقاب.

حديث السفينة

     روى البخاري عن النعمان بن بشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثَل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذِ من فوقنا! فإن تركوهم وما أرادوا هَلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك