رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 16 أغسطس، 2010 1 تعليق

أسباب الخسران وآثاره في القرآن (1/2)

 

 

أمر الله -عز وجل- بتدبر القرآن الكريم فقال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}، وذمّ من قصر في تدبر كتابه الحكيم فقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.

ومِنْ تدبُّر القرآن النظر في ألفاظه الكريمة وما اشتملت عليه من معان عظيمة ومقاصد كلية وأحكام شرعية، ترد أحيانا على سبيل البيان والتفصيل، وترد في أحيان أخرى على سبيل الإجمال في موضع ويأتي تفصيلها في مواضع أخرى .

ومن تلك الألفاظ التي وردت مجملة في موضع لفظ «الخسر» كما جاء في قوله - عز وجل-: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْر إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، وقد جاء في آيات كثيرة تفصيل لهذا الإجمال؛ حيث ذكر الله تعالى أسباب الخسران وآثاره وسبيل النجاة منه، وسيطوف بك هذا المقال في جولة موجزة لتتبع بعض موارد لفظ «الخسران» في القرآن لتتضح معالم هذه الحقيقة القرآنية الخطيرة .

وتكمن أهمية هذا البحث الوجيز فيما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من وعيد شديد وبشارة عظيمة، أما الوعيد فهو أن الله حكم بالخسران على جميع الناس إلا من أتى بهذه الأربعة: وهي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر؛ فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور، أما البشارة فهي لأهل الإيمان والعمل الصالح؛  حيث يكون الناس في خسر - وهو النقصان - ويكونون في زيادة  من أوجه الخير الدائم.

فإذا كان الأمر بهذه الخطورة ، فحري بالمكلف أن يعرف ما الخسران؟ وما أسبابه؟ وما آثاره؟ وكيف تكون النجاة منه؟ وهذا ما تتناوله المحاور التالية:

 

أولاً - تعريف الخسران :

يأتي الخسران في اللغة بمعنى النقص، كما قال ابن فارس: خسر: الخاء والسين والراء أصل واحد يدل على النقص، يقال: خسرت الميزان وأخسرته، إذا نقصته.

ومن معاني الخسران الضلال والهلاك كما جاء في لسان العرب: والخسار والخسارة: الضلال والهلاك، وفي التنزيل العزيز: {والعصر إن الإنسان لفي خسر}.

قال الراغب في «المفردات في غريب القرآن»: الخسر والخسران انتقاص رأس المال، وينسب ذلك إلى الإنسان فيقال: خسر فلان،  وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته؛ قال تعالى: {تلك إذا كرة خاسرة}، ويستعمل ذلك في المقتنيات الخارجة كالمال والجاه في الدنيا وهو الأكثر، وفي المقتنيات النفسية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب، وهو الذي جعله الله تعالى الخسران المبين فقال: {الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين}، وكل خسران ذكره الله تعالى في القرآن فهو على هذا المعنى الأخير، دون الخسران المتعلق بالمقتنيات الدنيوية والتجارات البشرية.

 

ثانياً- أسباب الخسران :

جاء في آيات كثيرة ما يبين أن أسباب الخسران نوعان: أسباب توجب الخسران المطلق الذي يستوجب الخلود في النار، والثاني: أسباب توجب مطلق الخسران الذي يستحق فيه العبد العقوبة بسبب ذنوبه ويكون تحت مشيئة الله -عز وجل- إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه بفضله ورحمته ، كما قال الشيخ ابن سعدي: لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان; فمن لا إيمان له لا عمل له، وهذا الخسار هو خسار الكفر، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا وقد يكون معصية وقد يكون تفريطا في ترك مستحب كالمذكور في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}؛ فهذا عام لكل مخلوق إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وحقيقته فوات الخير الذي كان العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه. اهـ.

 

فمن النوع الأول :

1- الشرك: قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، قال ابن كثير: وذلك لأن الشرك باللّه محبط للأعمال، مفسد للأحوال؛ ولهذا قال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} من جميع الأنبياء {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك}  هذا مفرد مضاف يعم كل عمل ، ففي نبوة جميع الأنبياء أن الشرك محبط لجميع الأعمال؛ كما قال تعالى في سورة الأنعام - لما عدد كثيرا من أنبيائه ورسله قال عنهم: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقوله: {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، دينك وآخرتك؛ فبالشرك تحبط الأعمال، ويستحق العقاب والنكال. اهـ .

2- التكذيب بلقاء الله: قال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}، قال ابن سعدي: أي: قد خاب وخسر، وحرم الخير كله ، من كذب بلقاء الله، فأوجب له هذا التكذيبُ الاجتراءَ على المحرمات، واقتراف الموبقات ".

3- الكفر والردة وعدم الإيمان والإعراض عن الإسلام : قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، وقال  تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي: ومن كفر بالله تعالى، وما يجب الإيمان به من كتبه ورسله أو شيء من الشرائع، فقد حبط عمله، بشرط أن يموت على كفره؛ كما قال تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة}، قال ابن سعدي: حيث هم خسروا الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ وحيث فاتهم النعيم المقيم؛ وحيث حصل لهم في مقابلة الحق الصحيح كل باطل قبيح، وفي مقابلة النعيم كل عذاب أليم؛ فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. اهـ.

وقال تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}؛ قال ابن كثير: وَقَوْله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسهمْ} أَي: يَوْم الْقِيَامَة {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ: لَا يُصَدِّقُونَ بِالْمَعَادِ وَلَا يَخَافُونَ شَرّ ذَلِكَ الْيَوْم. اهـ.

وقال ابن سعدي: قوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي: فوّتوها ما خلقت له، من الإيمان والتوحيد، وحرموها الفضل من الملك المجيد {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}؛ فإذا لم يوجد الإيمان منهم، فلا تسأل عن الخسار والشر الذي يحصل لهم. اهـ.

وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي: من يدين لله بغير دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، فعمله مردود غير مقبول؛ لأن دين الإسلام هو المتضمن للاستسلام لله إخلاصا وانقيادا لرسله، فما لم يأت به العبد لم يأت بسبب النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه ، وكل دين سواه فباطل، وَفِي الصَّحِيح: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَع بِي أَحَد مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ ثُمَّ لَا يُؤْمِن بِي إِلَّا دَخَلَ النَّارُ».

وأما النوع الثاني من أسباب الخسران فمنه:

1- اتخاذ الشيطان وليا: قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا}، وقال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، قال ابن سعدي: وهذا الذي جرى عليهم من توليهم عن ربهم وفاطرهم، وتوليهم لعدوهم المريد لهم الشر من كل وجه، فخسروا الدنيا والآخرة، ورجعوا بالخيبة والصفقة الخاسرة؛ ولهذا قال: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا}، وأي خسار أبين وأعظم ممن خسر دينه ودنياه وأوبقته معاصيه وخطاياه فحصل له الشقاء الأبدي، وفاته النعيم السرمدي، كما أن من تولى مولاه وآثر رضاه، ربح كل الربح، وأفلح كل الفلاح، وفاز بسعادة الدارين، وأصبح قرير العين.

التعليقات

  • عصام
    24 يوليو, 2024

    شكرا لك

أضف تعليقك