رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. خالد آل رحيم 13 أبريل، 2017 0 تعليق

أسباب الانحراف الفكري ( 6)

من أخطر الأمراض التي تفشت في مجتمعاتنا قديماً وحديثاً، بل وربما يكون أهمها على الإطلاق  هو مرض الانحراف الفكري الذي نشأ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وتصدي له بقوة  كما في حديث ذي الخويصرة الذي طعن في عدالة النبي[، وغيرها من المواقف ولكن نور النبوة قضى على تلك الانحرافات.

وقلنا: إن هذا الانحراف له أسباب كثيرة ذكرنا منها ترك العمل بالقرآن الكريم، والخلل في فهم نصوصه، و ترك العمل بالسنة، واليوم نستكمل الحديث عن هذه الأسباب.

عدم دراسة القضايا الفكرية وفهمها

     لاشك أن من أعظم أسباب الانحراف الفكري الجهل الذي حذر منه -تبارك وتعالى- وندب الأمة للاهتمام بالعلم في غير آية من القرآن الكريم؛  حيث قال -تعالى-: {فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا فِي الدّينِ وَلِيُنذِروا قَومَهُم إِذا رَجَعوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرونَ}، ولذلك ذُكرت  لفظة العلم بمشتقاتها في القرآن الكريم أكثر من ستمائة مرة وأعظم من ذلك أن الله -تعالى- بدأ الوحي بذكر العلم لاغير فقال -تعالي-: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ  خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ  الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، وبالعلم يموت الجهل ويضمحل؛ لأن كل شمعة من العلم تُنير جزءاً من  ظلام الجهل، وهذا الجهل المقصود هو الجهل العام لكل قواعد الشريعة وأصولها، وهنا ربما يقول أحدهمأنا لست جاهلاً كما تزعمون فلماذا تصفوني بالانحراف؟

نقول: ربما لا تكون جاهلاً بالمعنى المعروف، وربما تكون حافظاً لكتاب الله  وربما يكون عندك من العلوم الشيء الكثير.!

     لكن حديثنا هنا عن جهل القضايا الفكرية المهمة وفهمها، التي ربما يجهلها بعض من عندهم شيء من العلوم الشرعية، ويأتي على رأس هذه القضايا الفكرية قضية الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقضايا الإيمان والكفر،  وفقه الخلاف، والعمل الجماعي، فمن تعلم العلم دون دراسة وفهم هذه القضايا ربما انحرف انحرافاً فكرياً خطيراً  فيأمر بالمعروف في غير محله، وينهى عن منكر في غير موضعه، وربما لا يكون منكراً، ويحث على الجهاد في غير مواطنه، ناهيك عن قضايا الإيمان والكفر؛ فيُخرج من  الإسلام من لا يستحق الخروج، وربما يستحلُ أموالاً وأعراضاً بهذا الأمر، وكذلك عدم فقهه للخلاف وأن هناك قضاياً يسع فيها الخلاف وقضايا الخلاف فيها سائغ معتبر.

     لذلك تجد أن من يدرُس هذه القضايا دراسة منهجية  صحيحة يكون بعيداً كل البعد عن الانحراف؛ ولذلك قال شيخ الإسلام  -رحمه الله-: كل من دعا إلي شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم  فقد دعا إلى بدعة وضلالة، والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم؛ فإن الشريعة مثل سفينة نوح  -عليه السلام- من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق (درء التعارض).

قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

     إن مدار إرسال الرسل برسالتهم حول قضية  الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حيث إنهم يدعون إلى الخير وينهون عن كل منكر، ويحذرون من الشرور والآثام؛ ولذلك لما كانت هذه الرسالة للناس فمن آمن بها كان من المؤمنين الذين جعل الله  العمل بهذا الأمر وصفاً لهم فقال -تعالي-: {وَالمُؤمِنونَ وَالمُؤمِناتُ بَعضُهُم أَولِياءُ بَعضٍ يَأمُرونَ بِالمَعروفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ}، ووصفهم بالفلاح فقال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، والأمة لم تنل الخيرية إلا بهذا الأمر فقال -تعالي-: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـه}، ولذلك لعن الله -تعالي- كل من ترك هذا الواجب فقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، وقال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، قال القرطبي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجباً على الأمم السابقة وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة؛ فعن درة بنت أبي لهب قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم  وهو على المنبر فقال: من خير الناس يارسول الله؟ قال: «آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم لرحمه» (انتهي).

قال الحسن معلقاً على هذه الآية: إن فى الآية دلالة على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر تلي منزلته عند الله منزلة الأنبياء؛ فلذلك ذكرهم عقبهم (انتهي).

     ولهذا جعل المولى -تعالى- العمل لأجل هذه القضية هوالفيصل الذي يميز بين المؤمنين والمنافقين فقال -تعالى- واصفاً المؤمنين: {وَالمُؤمِنونَ وَالمُؤمِناتُ بَعضُهُم أَولِياءُ بَعضٍ يَأمُرونَ بِالمَعروفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ}. وقال -تعالى- واصفاً المنافقين: {المُنافِقونَ وَالمُنافِقاتُ بَعضُهُم مِن بَعضٍ يَأمُرونَ بِالمُنكَرِ وَيَنهَونَ عَنِ المَعروفِ}.

مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

     بعد الحديث عن فضل هذه الفريضة العظيمة نعرج اليوم علي مشروعيتها  فضلا عما ذكرنا سابقاً، فمن المعروف أن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد العاجلة والآجلة عنهم وهذه المصالح التي جاءت بها الشريعة هي الحفاظ على  الضرورات الخمس وهى: (الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال)، ويُعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم قواعد الدين، وهو المهمة التى بعث الله بها النبيين أجمعين.

     قال الله -تعالي-: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وقالصلى الله عليه وسلم : «من رأي منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»، قال الدكتور ياسر برهامي: وهذا أمر إيجاب بإجماع الأمة نقل الإجماع على وجوبه الجصاص والغزالي وابن حزم والنووي والشوكانى وغيرهم ومقصودهم في ذلك الوجوب  أن الأمر بالمعروف الواجب واجب، وأن النهي عن المنكر المحرم واجب والأمر بالمعروف المستحب مستحب والنهي عن المنكر المكره مستحب؛ لهذا كان لابد من فهم صحيح، وعلم نفهم به هذا الأمر من خلال الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة (انتهي).

وقال على بن الحسين: التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالنابذ لكتاب الله وراء ظهره إلا أن يتقي منهم تقاة.

فقالوا: وما تقاة؟

قال: يخاف جباراً عنيداً أن يسطوا عليه أو أن يطغى.

قال القرطبيالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجباً على الأمم السابقة وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة.

الوجوب والتحريم والاستحباب

يدور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حول الأحكام التكليفية مابين الوجوب والاستحباب والتحريم والكراهة.

     وحديثنا اليوم عن الوجوب والتحريم والاستحباب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يكون واجباً إن كان العمل المأمور به من الواجبات أو الفعل المرتكب الذي يُراد النهي عنه- معدوداً من المحرمات؛ فهنا يجب  الأمر والنهي مالم يكن هناك عذر فى تركه، مع العلم أن الإنكار بالقلب لايسقط بحال من الأحوال.

متى يكون محرماً ؟

     إذا ترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زوال مصلحة أعظم من المأمور بها أو ترتب مفسدة أعظم من المنهي عنها، كما فعل شيخ الإسلام لما لم يوقظ جند التتر المخمورين للصلاة؛ لأنه ربما لو أفاقوا لقتلوا المسلمين، وكذلك لو لحق الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الضرر مع علمه أنه لايفيد لحديث حذيفةرضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه قال: «لاينبغي للمؤمن أن يُذل نفسه قالوا: وكيف يُذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يُطيق». (سلسلة صحيحة)، وإن كان بعض العلماء خالف في ذلك كابن العربي ورد كلامه القرطبي -رحمهم الله تعالى.

 وقد ذكر بعض العلماء أنه يكون محرماً في أربع حالات:

الأولى: أن يؤدي إنكار المنكر إلى فوات معروف أكبر منه.

الثانيةأن يؤدي إنكار المنكر إلى حصول منكر أكبر منه.

الثالثةأن يؤدي الأمر بالمعروف إلى فوات معروف أكبر منه.

الرابعةأن يؤدي الأمر بالمعروف إلى حصول منكر أكبر منه.

متى يكون مستحباً؟

ويكون مستحباً في حالتين:

الأولي: أن يكون المأمور به مستحباً ولو تواطأ أهل بلد على تركه، أو يكون الفعل المرتكب مكروهاً؛ فيكون النهي عنه مستحباً

الثانية: كون المأمور به أمراً واجباً أو الفعل المرتكب أمراً محرماً، لكنه يخشى إذا أنكر أن يلحقه الضرر أو الهلاك فيسقط عنه الوجوب ويبقى مستحباً في حقه.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك