رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. خالد آل رحيم 22 مارس، 2017 0 تعليق

أسباب الانحراف الفكري ( 4)

من أخطر الأمراض التي تفشت في مجتمعاتنا قديماً وحديثاً، بل وربما يكون أهمها على الإطلاق هو مرض الانحراف الفكري الذي نشأ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتصدى له بكل قوة كما في حديث ذي الخويصرة الذي طعن في عدالة النبيصلى الله عليه وسلم، وغيرها من المواقف، ولكن نور النبوة قضى على تلك الانحرافات.

وقلنا: إن هذا الانحراف له أسباب كثيرة، ذكرنا منها ترك العمل بالقرآن الكريم، والخلل في فهم نصوصه، و ترك العمل بالسنة، واليوم نستكمل الحديث عن هذه الأسباب.

الزهد والطعن في العلماء

     السبب الخامس من أسباب الانحراف الفكري هو الزهد والطعن في العلماء الربانيين الذين جعل المولى -تعالى- لهم منزلة عظيمة فى الدنيا والآخرة؛ فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، قال العلماء: في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم؛ فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء.

     وفضَّل الله العلماء على غيرهم فجعلهم ورثة الأنبياء؛ ولذلك تجد عزوف الناس ولاسيما الشباب عن مجالستهم فتتلقفهم أيدى أصحاب المناهج المنحرفة مباشرة أو على وسائل التواصل الاجتماعي بكل أنواعها؛ فيبثون في عقولهم أفكاراً منحرفة بعيدة البع كله د عن الدين وعن وسطيته التي تحدثنا عنها؛ ولذلك كان الشافعي يقول: «من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام» فما بالنا بمن يتفقه من مواقع مشبوهة لا يُعرف لها صاحب .

     وللعلماء مكانة عظيمة عند الله -تعالى؛ فكما جعلهم ورثة لأنبيائه فهم صمام الأمان لكل الأمم ضد الفتن، حتى أنه صلى الله عليه وسلمأخبر أن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ولكنه يُقبض بقبض العلماء، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا»، ولذلك قبض العلماء سبب عظيم من أسباب الضلاّل والانحراف؛ حيث يتصدر المشهد الضلال فيضلوا ويُضلوا وكذلك بقبض العلماء يكثر الهرج، وتكثر الفتن، كما جاء فى الحديث «عن سالم قال: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج قيل: يا رسول الله، وما الهرج؟ فقال: هكذا بيده فحرفها كأنه يريد القتل».

قال العلماء: والمقابلة بالطباق بين (يقبض العلم) وبين (يظهر الجهل)، فقد قابل بين (يقبض) أي: يختفي وبين (يظهر) وقابل بين (العلم) و(الجهل)، والطباق مما يبرز المعاني ويوضحها وبضدها تتميز الأشياء (انتهي).

والدلالة أنه بقبض العلم يظهر الجهل؛ ولذلك يدعو الله -تعالى- الناس إلى العودة إلى الكتاب والسنة وعلماء الأمة فقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.

فضل العلم والعلماء

     وللعلم والعلماء فضل عظيم عند الله -تعالى- القائل: {يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}،‏‏ قال زيد بن أسلم‏: بالعلم‏‏، قال العلماء: أي في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا؛ فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن، والعالم على من ليس بعالم، وقال الحسن -رحمه الله-: لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم.

   وقال ابن مسعود -صلى الله عليه وسلم-: مدح الله العلماء في هذه الآية. والمعنى أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم، وروي الإمام أحمد: أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان وكان عمر استعمله على مكة فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى قال: وما ابن أبزى؟ فقال: رجل من موالينا فقال عمر استخلفت عليهم مولى؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض قاض؛ فقال عمر -رضي الله عنه-: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب قومًا ويضع به آخرين».

     وقال صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالِم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر».

     وعنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن لقمان قال لابنه: يا بني، عليك بمجالسة العلماء، واسمع كلام الحكماء؛ فإن الله ليحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر». وعن ابن عباس: قيل يا رسول الله من نجالس أو قال: أي جلسائنا خير؟ قال: من ذكركم الله رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، وذكركم الآخرة عمله.

     وقال عيسى -عليه السلام-: «من تعلم وعلم فذلك يُدعي عظيماً في ملكوت السماء». وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: «تعلموا العلم؛ فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنس في الوحدة والصاحب في الخلوة (انتهي).

     وقال كعب الأحبار: «أوحى الله- تعالى- إلى موسى -عليه السلام- أن تعلم يا موسى الخير وعلمه الناس؛ فإني منور لمعلم الخير ومتعلمه في قبورهم حتى لا يستوحشوا في مكانهم». وقال المعافي بن عمران: «كتابة حديث واحد أحب إلى من قيام ليلة»، وقال بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم؟».

     ويكفي العلم شرفاً أن الله تعالى بدأ به الوحى، وهذه دلالة على أهميته هو ومن يتعلمه؛ فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) ومن شرفه أن لفظة العلم بمشتقاتها ذُكرت أكثر من ستمائة مرة في القرآن الكريم.

ترأُس الجهال

     ندب الله -تعالى- المؤمنين إلى التفقه في الدين بقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} لأنه -تعالى- يعلم أنه إذا غاب العلم والعلماء ساد الجهل والجهلاء فلذلك أمرهم بالتفقه فى الدين ليس لأنفسهم فحسب بل ليعلموا الناس وينذروهم، ولذلك لا يؤخذ العلم إلا من الأكابر، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم فإذا أخذوه من أصاغرهم وشرارهم هلكوا (انتهي).

     ولا يؤخذ عن مبتدع ولا كذاب ولا سفيه، كما قال الإمام مالك: لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه يعلن السفه وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس وإن كنت لا أتهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به (انتهي).

     وقد حذر  صلى الله عليه وسلممن ذلك كما أخرج البخاري: عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو بن العاص قال: سَمعتُ رسولَ اللهِصلى الله عليه وسلم  يقول: «إنَّ اللهَ لا يَقبِضُ العِلمَ انتزِاعاً يَنتزِعُهُ من العِبادِ، ولكنْ يَقبِضُ العِلمَ بقَبض العُلماءِ، حتى إِذا لم يُبقِ عالماً اتخذَ الناسُ رُؤُوساً جُهَّالاً فسُئلوا فأفْتَوا بغير علمِ فضلُّوا وأضَلُّوا»، وعندما يترأس الجهل تكون الطوام وأولها وأهمها الانحراف الفكري الذي يدمر البلاد والعباد؛ لأن الجاهل لا يعرف مقاصد الشرع كما حدث من ذو الخويصرة مع النبي صلى الله عليه وسلم.

     وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا عندما قال له: اتق الله يا محمد! فقال صلى الله عليه وسلم: إن من ضئضي هذا -أو في عقب هذا- قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) فظنوا أنهم بقراءة القرآن صاروا علماء وهم لا يفقهون مقاصده ومعانيه، والجهال دائماً يردون المحكمات من النصوص ويفسرونها بأهوائهم ويأخذون بالمتشابهات.

     قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إنه سيأتي أناس يأخذونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله، وعن ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا: كيف رأي ابن عمر -رضي الله عنه- في الحرورية؟ قال: يراهم شرار خلق الله؛ إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار، فجعلوها في المؤمنين.

     قال سعيد بن جبير: مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ويقرنون معها {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا: قد كفر ومن كفر عدل بربه (ومن عدل بربه) فقد أشرك، فهذه الأمة مشركون فيخرجون فيقتلون ما رأيت؛ لأنهم يتأولون هذه الآية (انتهي). وكذلك يأخذون بعض الأدلة ويتركون غيرها، وهذه ليست طريقة العلماء الراسخين الذين ينظرون فى جملة الأدلة الشرعية ومن ثم يستخرجون الأحكام لأن أدلة الشرع كلية وجزئية وعام وخاص ومطلق ومقيد؛ فاستخراج حكم قضية من القضايا يحتاج إلى النظر في الأدلة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر ببينها، وغير ذلك؛ لأن أخذ الحكم من دليلٍ دون نظرٍ إلى ما يعارضه أو يقيده أو يخصصه أو تطبيق الحكم دون النظر في تحقق المناط يؤدي إلى نتائج خطأ وأحكام غير صحيحة وضرب للأدلة ببعضها، ولقد كانت نتيجة مثل هذا النظر في الأدلة مؤلمة وقاسية على الأمة على امتداد تاريخها؛ فقد أُخرِج أقوام من الدين، وسُفكت دماء، واستحلت أموال، وانتهكت حرمات، وخُربت أوطان.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك