رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: سامح محمد بسيوني 17 فبراير، 2019 0 تعليق

أدب الحوار (5)

 

قال الله -تعالى-: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (البقرة: 83)، وقلا -تعالى-: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(النحل:: 125)، لا يخلو الإنسان في حياته مِن الحاجة إلى الحوار؛ فالإنسان في علاقةٍ دائمةٍ ومستمرةٍ مع المجتمع والناس مِن حوله، يحاورهم ويناقشهم ويتفاوض معهم؛ لذا فإن الإنسان يحتاج بلا شك إلى معرفة آداب الحوار الواجب اتباعها، حتى لا يخرج الحوار عن هدفه؛ فيتحول إلى جدالٍ يؤدي للمخاصمة والمنازعة، وفي هذه السلسلة نستعرض تلك الآداب.

أحسن الإصغاء وأتح الفرصة

     حسن الاستماع والإصغاء للآخرين، وإعطاؤهم الفرصة للتعبير عن آرائهم من آداب الحوار المفقودة؛ فأحيانًا ينشغل المحاور بإخراج كل ما لدية دفقة واحدة، ويكون هذا هو همه الأكبر، ظنًا منه أن ذلك يقنع محاوره أو يفحمه، والحقيقة أن هذه طريقة لا تكون مقنعة للآخر، بل قد تكون مستفزة له.

     كما أنه يجب الانتباه إلى أنه ليس المهم فقط في الحوار أن تُفرِّغ كل ما في جعبتك، بل من المهم أيضًا أن تستفرغ ما في جعبة الآخرين حتى يسهل عليك الرد عليهم ودحض ما يطرحونه من شبهات بطريقة جيدة؛ فكثرة المقاطعة والاعتراض يجعل الأمر أكثر صعوبةً عليك، كما أنه قد يتسبب في حنق المتابعين للحوار وتغير قلوبهم عليك واتهامك بالتعالي أو فرض الرأي على محاورك؛ مما يصدهم عن قبول الحق الذي معك.

المحاور الذكي

     فالمحاور الصادق الذكي لا ينظر إلى إثبات صحة كلامه وكسب المواقف فقط، بل يهتم أيضا بكسب قلوب الأشخاص المتحاورين معه، أو المستمعين لنقاشه عند طرحه للكلام؛ مما يساعد على سهولة قبولهم للحق الذي معه، ويمنع إثارة النفوس، وفتح أبواب الخصام والنفور، قال الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى- في ذلك: «وليتق المناظر مداخلة خصمه في كلامه وتقطيعه عليه، وإظهار التعجب منه، ولا يمكنه من إظهار حجته؛ فإنما يفعل ذلك المبطلون والضعفاء»، وقال إبراهيم بن الجنيد: قال حكيم لابنه يوما: «تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام؛ فإن حسن الاستماع انتباهك للمتكلم حتى يفضي إليك بحديثه، والإقبال في الوجه والنظر والصبر حتى ينهي الآخر ما لديه».

     وقد نُبه على أثر ترك ذلك؛ فقالوا: «إن كنت تريد أن ينفض الناس من حولك ويسخروا منك عندما توليهم ظهرك؛ فلا تعط أحداً فرصةً للحديث، تكلم بغير انقطاع، وإذا خطرت لديك فكرة بينما غيرك يتحدث؛ فلا تنتظر حتى يتم حديثه واعترضه في منتصف كلامه».

حسن الإصغاء

     كما أنه من الأهمية بمكان في هذا المقام أن ندرك  أن حسن الإصغاء: «ليس هو مجرد السكوت وترك فرصة الكلام للأخر، بل هو أن تستمع لما يقوله الآخر مقبلا عليه منتبها إليه»؛ فبعض المحاورين يسكت، ويجعلك تتكلم، وتُتم الحديث دون مقاطعة، لكنه يتغافل عنك، ويتشاغل بكتابٍ بين يديه يقلب أوراقه، أو جوال ينظر إليه ويعبث به؛ فلا يدرك ما تقول، ولا يشعرك بأهمية ما تقول، بل ربما تنتهي من كلامك وهو لا يدري أنك انتهيت؛ فهذا في الحقيقة ما أحسن الإصغاء والإنصات وإنما سكت.

لا تجادل في الحق  بل انصره

     يوفق الله -عز وجل- أطراف الحوار للوصول إلى الحق، إن صدقت النوايا وكان القصد الأول من الحوار هو معرفة الحق؛ لذلك يجلب على المحاور إن كان صادقا في نيته، أن يوطن نفسه على قبول الحق إذا تبين من أي أحد جاء به ولو كان عدوا له؛ فقد نهى الله -عز وجل- عن المجادلة في الحق إذا تبين، كما جاء في وصفه -سبحانه وتعالى- لحال الصحابة -رضوان الله عليهم- بعد خروجهم لملاقاة عير قريش حين قال: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ}، يقول السعدي -رحمه الله- في تفسيره: «والحال أن هذا لا ينبغي منهم، ولاسيما بعد ما تبين لهم أن خروجهم بالحق؛ ومما أمر الله به ورضيه؛ فبهذه الحال ليس للجدال محل فيها؛ لأن الجدال محله وفائدته عند اشتباه الحق والتباس الأمر؛ فأما إذا وضح وبان؛ فليس إلا الانقياد والإذعان»، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  يقبل الحق ولو جاء من أعدى الأعداء.

     كما جاء في سنن النسائي: عن قتيلة امرأة من جهينة، أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقال: إنكم تنددون، وإنكم تشركون، تقولون: ماشاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة! فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم  إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، ويقولون ماشاء الله، ثم شئت.

أبو هريرة والشيطان

     وكما جاء في قصة حديث أبي هريرة رضي الله عنه : وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم  بحفظ زكاة رمضان؛ فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام؛ فأخذته وقلت: والله لأرفعنّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: إني محتاج وعليّ عيال ولي حاجة شديدة؛ فخلّيتُ عنه؛ فأصبحتُ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟»، قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: «أما إنه قد كذبك وسيعود»؛ فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم  إنه سيعود؛ فرصدتُه؛ فجاء يحثو من الطعام؛ فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: دعني؛ فإني محتاج وعليّ عيال لا أعود. فرحمته؛ فخلّيت سبيله؛ فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟»، قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته؛ فخليت سبيله، قال: «أما إنه كذبك وسيعود»؛ فرصدته الثالثة؛ فجاء يحثو من الطعام؛ فأخذته؛ فقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود ثم تعود، قال: دعني أعلّمك كلماتٍ ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} حتى تختم الآية؛ فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح؛ فخليت سبيله فأصبحت؛ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما فعل أسيرك البارحة؟»، قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلماتٍ ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: «ما هي؟»، قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك؛ فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير-؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟»، قال :لا، قال: «ذاك شيطان».

قبول الحق

     وفى ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في (منهاج السنة النبوية): «والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق، وألا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط؛ فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق»؛ لذلك ينبغي في الحوار تقبل الحق الذي يأتي من محاورك بقبول حسن، والاعتراف بالخطأ الذي يظهره محاورك، وإلا كان الإنسان من أهل الكبر والعناد؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم  لما عرَّف الكبر قال: «الكبر بطر الحق وغمط الناس»، (فبطر الحق) أي: رده، (وغمط الناس): ظلمهم وعدم إعطائهم حقوقهم وبخسهم إياها، وهو عين الكبر الذي يمحق الله بسببه بركة العلم، وتضيع بسببه الحكمة، ويحارب من أجله الحق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من آدمي إلا في رأسه حكمةٌ في يد ملك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، فيرفع الله ذكره وشأنه بين الناس، وإذا تكبر قيل للملك: ضع حكمته».

     وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «إنَّ العبد إذا تواضع لله -عز وجل- رفع حكمته، وقال: انتعش رفعك الله؛ فهو في نفسه حقير، وفي أعين الناس كبير؛ فإذا تكبر وعدا طوره وهصه إلى الأرض، وقال: اخسأ أخساك الله؛ فهو في نفسه كبير، وفي أعين الناس حقير، حتى إنَّه أحقر في أعينهم من الخنزير».

كن مقنعا

     من الأخطاء الفجة في الحوار أن يتم القفز من أحد المتحاورين إلى النتائج مباشرة بناء على قناعاته الشخصية دون ذكر المقدمات الصحيحة المنطقية المؤدية لتلك النتيجة، كما أن المقدمة يجب أيضا أن تكون ذات علاقة واضحة بالنتيجة المقدمة، كما يقولون: (بما أن: إذًا)، وإلا فسيصير الأمر إلى جدال عقيم بلا نتيجة مقنعة.

أساليب الإقناع

كما أن المحاور الجيد هو من يستطيع أن يستخدم أساليب الإقناع الصحيحة في الحوار مثل:

-  ترسيخ المرجعية الفاصلة بينك وبين من تحاوره عند الاختلاف.

-  البدء بنقاط الاتفاق قبل الاختلاف، وهذا يضيق دائرة الخلاف في الحوار، ويعطى فرصة نفسية لإقناع الآخر.

- تقديم الأدلة القوية أولا قبل المحتملة؛ لأن تقديم الأدلة المحتملة يؤدي إلى أن يورد المحاور الآخر إيرادات قد تكون صحيحة؛ فيضيع الوقت فيها بعيدا عن المقصود.

-  انتقد الفكرة التي تطرح دون التأكيد على نسبتها للمحاور الآخر، بل انسب للآخر الأفكار الصحيحة فقط، أما الأفكار الخطأ التي ذكرها في حواره؛ فانتقدها دون أن تنسبها إليه، حتى تجعله يشترك معك في نقدها ورفضها.

- لا تغلق الأبواب كلها أمام محاورك إذا شعرت بضعف منطقه، بل امنحه الفرصة لينسحب دون إحراج؛ لأنك لو أغلقت أمامه باب الهروب؛ فلن يجد أمامه إلا التشبث بفكرته الخطأ حفظا لماء وجهه، وهذا ما لا تريده؛ فامنحه دائما فرصة أخيرة للاقتناع.

القول باللازم

     الانتباه إلى القول باللازم، أعنى بذلك: أنه في بعض الأحيان يُستدل على فسادِ القول من لازمه؛ فيقال: يلزم من هذا الكلام الذي تقوله كذا وكذا، واللازم هذا غير صحيح، وعند ذلك يسقط الاحتجاج، كما بين مثل ذلك -سبحانه وتعالى- في دحض عقيدة أهل الكتاب المنحرفة؛ فقال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ فنسبة الولد لله يلزم منه وجود زوجة، والافتراء بنسبة الزوجة لله خروجًا من هذا اللازم، يلزم منه أيضًا أنه صار هناك وطءٌ وشهوةٌ وهذا لا يليق بالرهبان عندهم؛ فكيف يليق بالإله؟! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرًا.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك