رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: سامح محمد بسيوني 13 يناير، 2019 0 تعليق

أدب الحوار (2)


الناس يتفاوتون في إدراك الحق؛ فمنهم من يدركه بنفسه، أو بتعليمه وإرشاده، ومنهم من لا يدركه إلا بالحوار والمناقشة والجدال، وهؤلاء صنفان منهم من يتبع الحق ويسلك طريق الرشاد، ومنهم من يجادل ويعاند، ويسلك سبيل الشيطان، ومجادلة كل صنفٍ من هذه الأصناف تختلف باختلافهم قال الله -تعالى-: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46)، من هنا كان الحديث عن أدب الحوار والمجادلة أمر مهم للغاية، واليوم نكمل ما بدأناه في هذا الموضوع، بعد أن بينا في الحلقة الماضية أدبين من أدب الحوار وهما الإخلاص، والإلمام بالمسألة المتحاور فيها.

تحديد موضوع النقاش

     لابد أولًا مِن تحديد الموضوع الذي سيتم النقاش حوله بيْن المتحاورين والهدف مِن هذا النقاش، وعدم التشعب إلى موضوعٍ آخر إلا بعد الانتهاء منه؛ فالحوار يموج ويضطرب أشد الاضطراب إن لم يمنع الاستطراد والتشعب بيْن الموضوعات؛ لذا كان الشافعي -رحمه الله- كما قال عنه الربيع بن سليمان-: «إذا ناظره إنسان في مسألة فغدا إلى غيرها، يقول: نفرغ مِن هذه المسألة ثم نصير إلى ما تريد، ويتلطف في دفع ذلك في مباديه قبْل انتشاره وثوران النفوس» (آداب العلماء والمتعلمين).

تحرير محل النزاع

- ثم يجب بعد ذلك تحرير محل النزاع في الموضوع المطروح ذاته، والمقصود هنا بتحرير محل النزاع هو: تعيين وجه الخلاف بيْن المتحاورين، والوقوف على الموضع المختلف فيه بالتحديد؛ ليخرج مِن النزاع ما ليس منه؛ فتكون النتيجة وضوح الرؤية والوصول للحق بسهولةٍ ويسرٍ سواء للمتحاورين أم السامعين بعيدًا عن حوار الطرشان الذي يَنتج مِن القفز على هذه الخطوة المهمة أو تناسيها؛ فيصير كل طرف مِن المتحاورين في وادٍ يتكلم ويحشد فيه أدلته بغض النظر عن كونها تصلح في محل النزاع أم لا؟ فتتسع فجوة الخلاف، ويتحول إلى جدلٍ بيزنطي لا فائدة منه.

حوار النبي - صلى الله عليه وسلم

- وانظر -رحمني الله وإياك- إلى حوار النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- كما جاء في صحيح البخاري عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَالَ: فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، قَالَ: وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، قَالَ: فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا، بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَقَالَ لِي: «يَا أُسَامَةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟!» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟!»، قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. (متفق عليه).

أصل القضية

فالنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحوار ركَّز على أصل القضية مع أسامة -رضي الله عنه- مِن أنه قتل الرجل بعد قوله: «لا إله إلا الله»، مع كونه لم يأتِ بناقضٍ لها بعد النطق بها.

ولم يتشعب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أسامة في الأسباب التي حاول أن يسوقها - صلى الله عليه وسلم - لتسويغ فعله مِن كون الرجل كان متعوذًا أو كونه قد قَتل مِن الصحب الكثير أو غير ذلك، قبْل النطق بكلمة التوحيد.

4- الحرص على التكافؤ بيْن المتحاورين

     ويقصد بذلك مراعاة المرتبة العلمية والثقافية، وكذلك القدرة العقلية، ودرجة الفهم بيْن طرفي الحوار والمناظرة؛ فلا يمكن أن يستقيم حوار أو مناظرة بين عالم وجاهل؛ لأن الغلبة في الأعم الغالب ستكون للجاهل بتشغيبه وعلو صوته وتلبيسه بذلك على المستمعين.

     فالجاهل عدوٌ لنفسه قبْل أن يكون عدوًّا غيره؛ فلا تستطيع أن تكمل معه حوارًا لجهله، ولا يُجنى مِن محاورته إلا ضيق النفوس وزيادة النفور، مع ما يكون في الحوار مِن طمسٍ للحق، مع ضياع الاستفادة المرجوة مِن الحوار سواء للمتحاورين أم الحاضرين أم السامعين.

وفي ذلك يقول الشافعي -رحمه الله-: «ما ناظرتُ عالمًا إلا غلبته، وما ناظرني جاهل إلا وغلبني»، وقد صدق -رحمه الله- في ذلك.

فحال حوار العالم مع الجاهل كما قال القائل:

لو كنتَ تعلم ما أقول عذرتني

                                    أو كنت تعلم ما تقول عذرتك

لكن جهلت مقـالتي فـعـذلـتني 

                                     وعـلمـت أنك جاهل فعـذرتك

وقد أوصى الله -عز وجل- في كتابه الكريم بمثل هذا حين وصف عباده العلماء الأولياء في تعاملهم مع الجاهلين، فقال -تعالى-: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (القصص:55).

قال البغوي -رحمه الله- في تفسيره: «ليس المراد منه سلام التحية، ولكنه سلام المتاركة» اهـ، فدلَّ ذلك على أهمية الإعراض عن الجاهلين، وضرورة المكافأة العلمية بين المتحاورين لبيان الحق المنشود.

5- فهم كلام الطرف الآخر فهمًا صحيحًا

فليس كلُّ أحدٍ أوتي مِن حسن التعبير عن مقصوده أو حسن الفهم عن غيره ما ينبغي أن يكون عليه؛ ولذلك لابد مِن:

الفهم لكلام المخالف

الفهم لكلام المخالف، وعدم الرد عليه حتى يُفهم كلامه؛ لأن الجواب لا يكون ذا فائدةٍ مرجوةٍ إلا بعد فهم الكلام وإدراك مغزاه؛ إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، بل في الحقيقة يُعد الجواب قبْل الفهم مِن الحُمق.

قال الخطيب البغدادي: «ولا يتكلم على ما لم يقع له علمه مِن كلامه؛ فإن الجواب لا يصح عما لم يفهمه، ولم يتصور مراد خصمه منه» (الفقيه والمتفقه).

وقال ابن القيم: «لما كان المقصود بالخطاب دلالة السامع وإفهامه مراد المتكلم مِن كلامه، وأن يبين له ما في نفسه مِن المعاني، وأن يدله على ذلك بأقرب الطرق، كان ذلك موقوفًا على أمرين: بيان المتكلم، وتمكن السامع مِن الفهم» (الصواعق المرسلة).

حسن الفهم للحجج

     وكذلك لابد أن يكون هناك أيضًا حسن فهم لحجج الطرف الآخر، وأدلته وأقواله، والخلفيات المؤثرة في واقعه وتصرفاته، ولا ينبغي أن يناقش أحدٌ أحدًا ويدخل معه في حوارٍ وهو لم يفهم بعد مراده وقصده وحجته؛ حتى لا يعاب قول صحيح لأحد المتحاورين بسبب عدم الفهم للكلام، وكذلك حتى لا تكون الإجابة إجابة سيئة مضللة للسامعين لا خير فيها؛ فعن ابن وهب قال: سمعت مالكًا يقول: «لا خير في جواب قبْل فهمٍ» (الفقيه والمتفقه).

     وقال ابن عبد البر: «أوصى يحيى بن خالد ابنه جعفرًا قَائلًا: «لا ترد على أحدٍ جوابًا حتى تفهم كلامه؛ فإن ذلك يصرفك عن جواب كلامه إلى غيره، ويؤكد الجهل عليك، ولكن افهم عنه، فإذا فهمت فأجبه، ولا تعجل بالجواب قبْل الاستفهام، ولا تستحِ أن تستفهم إذا لم تفهم؛ فإن الجواب قبْل الفهم حمق، وإذا جهلت قبْل أن تسأل؛ فاسأل فيبدو لك، واستفهامك أجمل بك وخير مِن السكوت على العيِّ» (جامع بيان العلم وفضله).

هذا وفي فهم كلام المحاور فوائد عدة أخرى، منها: اختصار الطريق إلى الجواب، تحديد ما يحتاج إلى جواب، إدراك ما في قوله مِن تناقض، اختصار الوقت.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك