أخلاق الموظف المسلم
على الموظفين أن يكونوا شديدي الحذر من أن تُخدش عفتهم فينزلقون بها إلى السقوط في بعض الفواحش، أو مقدّماتها
على الموظف أن يتواضع للناس، ولا سيما أهل الأقدار والمكانات العلميّة والاجتماعية، وأن يحذر من أن تأخذه العزّة بالإثم، والاستكبار عن النّصح
على الموظف أن يستمع إلى نُصح الناصحين، ونقد الناقدين، ليُصلح من أمره، أما المستكبر فإنه يغضب من نصح الناصحين ونقد الناقدين، ليصلح من أمره، فتتراكم أخطاؤه وآثامه
كتبه: الشيخ. عبد الرحمن حسن حبنكة
الأخلاق الإسلامية الفاضلة تطالب الموظف المسلم بها بشدة؛ لأنه يمثل في حدود دائرة عمله إمام المسلمين، أو الرئيس الأعلى للمؤسسة، ومن أبرز الأخلاق المطلوبة وأكثرها وجوبًا الأمانة، والصدق، والعدل، والعفة، والرفق، والتواضع، والإخلاص في العمل، والاجتهاد والإنجاز على أحسن وجه وأتقنه، ومعاملة الآخرين من الزملاء والرؤساء والمرؤوسين والمراجعين بما يحب أن يعامل هو به لو كان في أمكنتهم دون تجاوز لحدود الحق، ولا محاباة ولا أثَرَة.
أما الأمانة: فهي ركن أساسيُّ من أركان العمل الوظيفي، فلا يصلح لأي عمل وظيفي خائن لا أمانة له.
وأما الصدق: فهو شقيق الأمانة ورفيقها الملازم لها وجودًا وعدمًا، والصدق يشمل: الصدق في الحديث، والصدق في الوعد، والصدق في العمل، فإذا وعد الموظف وعدًا فعليه أن يوفّي به، وإذا قال قولاً فعليه أن يكون صادقًا فيه.
وكلُّ من الخيانة والكذب لا يُفْطَر عليهما المؤمن، أي: كل إنسان؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة، وهي فطرة الإيمان و الإسلام، روى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يُطبع المؤمن على الخلال كلّها إِلا الخيانة والكذب»، وأبان الرسول صلى الله عليه وسلم بعض علامات المنافق، فقال فيما روى البخاري ومسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان».
أما العدل: فقد أجمعت عقول الأولين وتجاربهم على أن العدل أساس الملك، والعدل يكون بإعطاء كل ذي حق حقه، دون وَكْسٍ ولا شططٍ، والعدل من مبادئ الإسلام الدستورية العامة، قال الله عز وجل في سورة النحل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(النحل: 90).
ومما ينافي العدل عدم التسوية بين أصحاب المعاملات في الحقوق والواجبات، وإيثار بعضهم بالتيسير والتسهيل، لقرابة أو صحبة أو هوى، ومعاملة آخر بالتعسير والتشديد، وتقديم بعض أصحاب المعاملات المتأخرين في الحضور على المتقدمين فيه، لدى إنجاز معاملاتهم وتأخير ذوي الاستحقاق بمقتضى سبقهم في الحضور.
ومما ينافي العدل تكليف رئيس العمل بعض موظفيه بأعمال شاقة، مع إِعْفَاءِ آخرين منها، محاباة لهم، وإِيثاراً لقرابة أو صحبة أو هوى أو رشوة ظاهرة، أو مقنّعة بالهدية، أو نزعة إِقليمية.
وأمّا العفّة: فهي تُوجب على كثير من الموظفين أن يكونوا شديدي الحذر من أن تُخدش عفتهم فينزلقون بها إلى السقوط في بعض الفواحش، أو مقدّماتها، وينجم عن ذلك طامّات كبريات.
وكم من رجال أسقطوا دولهم وجيوشهم وأمتهم في نكبات مهلكات مُدَمِّرات من خلال بعض أعمال خدشت عفتهم، فاستولى عليهم شياطين الإنس عن طريقها، وأسروهم وهدِّدُهم بالفضيحة إِلاّ أن يحققوا لهم أغراضهم داخل شعوبهم مستغلين سلطاتهم في وظائفهم.
وأما الرفق بالناس: فقد اهتم به الرسول صلى الله عليه وسلم اهتماماً بالغاً؛ لأنه أحد الأسس المؤلفة للقلوب، والناظمة لأفراد الجماعة، ومن النصوص في الرفق ما يلي:
روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه»، وفي رواية: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله»، «عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش، فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه»، وروى مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله»، وروى مسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به»، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في دُعائه: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرَفَقَ بهم فارفُق به»، وروى البخاري ومسلم عن عائذ بن عمرو أنه دخل على عبيد الله بن زياد، فقال: أي بني، إِني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن شَرِّ الرِّعاء الحُطَمةَ».
الرعاء: جمع الراعي. والحطمةُ: هو الذي يشتد على إبله أو بقره أو غنمه فيسوقها عنيفاً بلا رحمة ولا حكمة، ويدفع بعضها إلى بعض بالضرب، حتى يحطم بعضها بعضاً ويقتل بعضها بعضاً وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم الولاة القساة الذين يأخذون الناس بالشدة والعنف بالَّرعي الحُطَمَة.
أما التواضع: فهو من فضائل الأخلاق الأولى التي تطلب من الموظف المسلم؛ لأن من طبيعة الوظيفة التي فيها أمر ونهي وقدرة على التسلُّط والتحكم بالناس، أن تفسد صغار النفوس، فمَنْ كان ذا نفس حقيرة استكبر بنفسه واستعلى، ثم يفضي به استكباره إلى أن يكون جباراً، لا يرى إِلا نفسه، فلا تُهِمُّه إِلا مصالح نفسه، ثم ينظر إِلى الناس باحتقار.
وأما الإخلاص في العمل: فهو أولى صفات المؤمن؛ لأن الأعمال بالنيات كما هو معلوم.
وأما الاجتهاد في الإنجاز على أحسن وجه و أتقنه: فهو المطلوب الأول من كل عامل أجير، وقْتُه وطاقاته مملوكة لمن استأجره، ساعات استئجاره، والقاعدة العامة العظيمة لمكارم الأخلاق: أن يعامل الإنسان الآخرين بما يحب أن يعاملوه به، كما جاء في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم .
وصايا عامة للموظف المسلم: في هذه المقولة أسرد في فقرات ما ينبغي للموظف المسلم أن يتحلَّى به، وكثير منها جاء فيما سبق بيانه وشرحه، وبعضها قد يمكن ضمه إلى بعض:
- على الموظف المسلم أن يتقي الله عز وجل في العمل الوظيفي الذي هو مسؤول عنه بمقتضى وظيفته، وفي كل من له علاقة بعمله، من موظفين آخرين في العمل، ومن مراجعين أصحاب مصالح عنده، وأن يتقي الله فيما تحت يده من أموال لا حقّ له فيها.
- وعلى الموظف المسلم أن يراقب الله عز وجل في عمله، طالباً ثوابه منه، قائماً بواجبات وظيفته مبتغياً مرضاة الله عز وجلَّ، خائفاً من عقابه العاجل والآجل، وأن يضع في حسبانه أن الله فوقه يراقبه ويحاسبه ويجازيه، فمن جار أو ظلم أو أهمل واجبات وظيفته انتقم الله منه.
- وعليه أن يكبح جماح أهوائه وشهواته، وأن يلتزم بما أوجب الله عليه، وأن يبتعد عمّا حرّم الله عليه، مهما تعرّض خلال وظيفته لمغريات مالية أو غير مالية «كالغلول، والرشوة، وإيثار مصلحة نفسه على مصالح أصحاب الحقوق، إلى غير ذلك من المحرمات، ومنها الغيبة، والنميمة، والإضرار بالنّاس، والإفساد فيما بينهم».
- وعليه أن يتحلّى بفضائل الأخلاق ومنها على وجه الخصوص: الأمانة والصدق والعدل والعفة والرفق والتواضع ومعاملة الناس بما يحبُّ أن يعاملوه به مع التزام الحقّ.
- وعليه أن يكون رحيماً بالناس، يعاملهم باللّطف والمحبّة والإكرام، وأن يكون عفُوّاً كريماً، يتغاضى ويصفح عن إِساءات الآخرين، ولا سيما غلاظاتُ بعض المراجعين الثقلاء.
- وعليه أن لا ينظر إلى المراجعين على أنّهم دونه، إِذ صيّر الله حوائجهم إليه بمقتضى وظيفته.
- وعليه أن يتواضع للناس، ولا سيما أهل الأقدار والمكانات العلميّة والاجتماعية، وأن يحذر من أن تأخذه العزّة بالإثم، والاستكبار عن النّصح، وتقبُّل الأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر.
- وعليه أن يحذر من الظلم والجور وحرمان ذوي الحقوق حقوقهم، وإيثار غيرهم لهوىً من الأهواء، فمن ظلم عباد الله في الدنيا كان الله يوم القيامة خصمه، ومن الظلم تيسير مصالح الأقربين والأصحاب، وأعضاء الجماعة الحزبية التي هو منها بين ذوي الحقوق المتساوية، بل يجب عليه إتاحة الفرص لهم بالتساوي، وتفضيل من هو الأكفأ علماً وإخلاصاً وعملاً وديناً، وليس شيء أدعى إلى تعجيل نقمة الله على عبده، وتحويل نعمته عنه من الظلم، فليحذر من دعوة المظلوم؛ إذِ ليس بينها وبين الله حجاب، وإِن الله للظالمين لبالمرصاد.
- وعليه أن يحذر الغلول، وهو اختلاس أي شيء من الأموال العامة، ومنه سرقة وقت الوظيفة بغير حق أو إِذن من رب العمل.
- وعلى متسلم إدارة جديدة أن يحذر من الاعتماد على موظفين كانوا لمديرين سابقين ظالمين أعواناً لهم على ظلمهم، فهؤلاء يُحسنُون صناعة النفاق، والاستدراج إلى المزالق، ويحيطون به إِحاطة عامة تحجُبُ عنه حقائق الأمور، ثم يدفعون به من حيث يشعرُ ولا يَشْعُر إلى أن يَسِير في السُّبُل التي سلكها الظلمة من قبله، وخيرُ له أن يجتلب خبرا من الذين لم يسبق لهم أن أعانوا ظالماً على ظلمه.
- وعليه أن يقرب أهل الورع والصدق، الذين يخلصون النصيحة، ولا يتخذون الإطراء وسيلة للتقرب، فالركون إلى مدح المداحين وإطراء المطرين يُفسد النفوس، بما يبذر في تربتها الخصبة من بزور الزهو والخيلاء، والإعجاب بالنفس، فمن أعجب بنفسه استكبر عن أن يسمع من أحد كلمة: اتق الله. وإذا سمعها أخَذَتْهُ العزة التي هو فيها بارتكاب الإثم ، والانتقام ممن قال له ذلك.
- وعليه أن يُحسن إلى من هم تحت سلطته من موظفين، وإلى ذوي الحاجات عنده، ببشْره، وحُسن استقباله، ولين أقواله، وبما يستطيع ويتيسر له من ضيافة من ماله، أو مما هو مأذون به، مع معاملة الجميع بالعدل.
- وعليه أن يسمع من أهل العلم والمعرفة، والسابقين له في الخبرة بالعمل الوظيفي نصائحهم، وأن لا يستبدّ برؤيته الخاصة، فللسّابقين تجارب وخبرات مفيدة جدَّاً، إِذا كانوا من أهل العقل والرشد والحكمة والنصيحة المخلصة.
- وعلى من بيده سلطة التعيين في عمل وظيفي أن يُحسِن اختيار الأصلح والأكفأ والأخلص والأورع.
- وعليه أن يحذر من المحاباة والأثرة ظالماً بهما من هو الأحق والأفضل، فالمحاباة والأَثَرَةُ من فروع الجور والخيانة.
- وعليه أن يحذر من الوعد التسويفي الكاذب، الذي لا يُهمُّه الوفاء به، فالخلف في الوعد يوجب المقت عند الله وعند الناس، وليضع نصب عينيه قول الله عز وجل في سورة الصف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}(الصف: 2-3).
- وعليه أن يحذر من أن يستأثر لنفسه بشيء بحكم سلطته الوظيفية، في حين أن آخرين لهم فيه حق مساوٍ لحقه فيه.
- وعليه أن يحذر من تصديق النمَّامين المعروفين بالنميمة، فهم مفسدون، وفي الغالب هم كذابون، يفترون على الأوهام والظنون، أو يصدّقون أضعف الأخبار وأوهنها، فينقلونها على أنَّها وقائع ثابتة، فإذا بلغه خبرُ فعليه أن يتبين بنفسه ويتثبت.
- وعليه أن يستمع إلى نُصح الناصحين، ونقد الناقدين، ليُصلح من أمره، أما المستكبر فإنه يغضب من نصح الناصحين ونقد الناقدين، ليصلح من أمره، فتتراكم أخطاؤه وآثامه، حتى يفتضح و يسقط من أعين الناس أجمعين، وقد يخرج من عمله الوظيفي مطروداً.
- وعليه أن يحذر من أن ينفخ فيه كُرْسيُّه الذي يحتله في العمل الوظيفي نَزْعَةَ الكبر والاستعلاء على المراجعين، أو على من هم دونه في السُّلَّم الوظيفي.
- وعليه أن يعامل الآخرين كما يُحبُّ أن يُعامَل هو به لو كان هو المراجع صاحب الحاجة، أو هو الموظف الأدنى.
- وعليه أن يُبادر بكل ما لديه من استطاعة أن يقضي حاجات ذوي الحاجات عنده، أو يستطيع أن يقضيها لهم في دائرة عمله، ولو كان العمل مما جعل من واجبات غيره لدى توزيع أعمال دائرية، وعليه أن يحذر من الإهمال والتسويف والمماطلة.
- وعليه أن لا يهتم بشكليات العمل الوظيفي التي لا تَضْبِط حقاً، ولا تَمْنَعُ ظلماً، ولا تُقَدِّم فائدة تذكر، بل تُطَوَّلُ من إِجراءات العمل، وتُدير المعاملة التي يكفي فيها توقيع واحد على عدد من الموظفين، لا يقدّمون للمعاملة إلا توقيعاً عليها، دون أن يكون له أثر يُعدُّ.
- وعليه أن لا يُشدّد على أصحاب المعاملات، متى وجد الأمر حقاً سليماً لا ظلم فيه، ولا حيلة تهضم حقاً، أو تستولي على مالا حق فيه لصاحب المعاملة، فمن عيوب بعض الموظفين أنه مُغْرَمُ بالتعقيدات الشكلية، ويتعلل باللوائح التي يجد فيها مخارج تحلّه من التعقيدات، وهو يحسب أنه يُحسن صنعاً.
- وعليه أن لا يرضي أحداً من الناس بسخط الله، مستغلاً موقعه الوظيفي، لكن أن يجتهد في إرضاء الناس بحدود الشرع، فمن لم يرضه الشرع فلا أرضاه الله.
- وعليه أن يرفق بالناس في أقواله وأعماله، وأن يخفف عليهم التكاليف والإجراءات، ويسهل عليهم الأمور، ما وجد إِلى ذلك سبيلاً.
وأخيراً أقول إِن مما يؤسف له أن الحضارة الغربية قد أخذت لمصالحها الدنيوية بكثير من هذه الوصايا التي جاء بها الإسلام، في حين أن التأخر الحضاري الذي أصيب به المسلمون اليوم، قد جعلهم يتركون العمل بهذه الوصايا مع علمهم بها، ويجْلُبون إلى دوائرهم التعقيدات التي تركها الناس من حولهم، أسأل الله أن يرد المسلمين إلى رشدهم.
لاتوجد تعليقات