رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: خالد السبت 31 ديسمبر، 2019 0 تعليق

أخلاق الكبار (3)


ما زال الحديث موصولا عن أخلاق الكبار -أصحاب النفوس الكبيرة- الذين يحلقون عاليا ويترفعون عن الدنايا وسفساف الأمور، وذكرنا في المقال السابق نماذج من أصحاب هذه النفوس الكبيرة، واليوم نستكمل الحديث عن هذه النماذج.

الشافعي -رحمه الله- يقول عنه يونس الصدفي: ناظرته يوما -وهو يصفه بقوله: ما رأيت أعقل من الشافعي- في مسألة ثم افترقنا، ولقيني ثم أخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟

مثال عجيب

     وخذ هذا المثال الآخر العجيب العالم الوزير ابن هبيرة -رحمه الله- نال العلم والفقه والوزارة معا، وكان له مجلس حافل بالعلماء من أرباب المذاهب الأربعة، وبينما هو في مجلسه؛ إذ ذكر مسألةً من مفردات الإمام أحمد «يعني أن الامام أحمد تفرّد في هذه المسألة عن الأئمة الثلاثة الشافعي ومالك وابي حنيفة»؛ فقام فقيهٌ من فقهاء المالكية يقال له محمد الأشيري فقال: بل قال بهذا الإمام مالك، فقال أبو هبيرة -رحمه الله- هذه الكتب وأحضرها وإذا هي تنص على أن هذه المسألة من مفردات الإمام أحمد، فقال أبو محمد الأشيري، بل قال بذلك الإمام مالك، فتكلم العلماء الذين حضروا هذا المجلس وقالوا بل هي من مفردات الإمام أحمد، فقال: بل قال بذلك الإمام مالك، فغضب ابن هبيرة وقال أبهيمةٌ أنت؟ أما تسمع هؤلاء العلماء يصرّحون بأنها من مفردات الإمام أحمد والكتب شاهدة بذلك ثم أنت تصر على قولك.! فتفرق المجلس، فهب أنك في هذا المجلس أحد الطرفين في مكان ابن هبيرة أو في مكان الأشيري، وقال لك أبهيمةٌ أنت؟ هل ستلقاه بعدها؟ هل ستأتي مجلسه؟، هل ستحضر معه؟، هل تنام تلك الليلة؟ هل تفكر بالرجوع اليه؟

فليقل لي كما قلت له

     فلما انعقد المجلس في اليوم الثاني، جاء الفقيه المالكي وحضر كأن شيئا لم يكن، وجاء ابن هبيرة وجاء العلماء فأراد القارئ على عادته أن يقرأ ثم يعلق الوزير ابن هبيرة، فقال له قف فإن الفقيه الأشيري قد بدر منه ما بدر بالأمس، وإنه حملني ذلك على أن قلت له ما قلت فليقل لي كما قلت له فلست بخيرٍ منكم، ولا أنا إلا كأحدكم.! فكيف كان أثر هذه الكلمات؟! فضج المجلس بالبكاء، تأثروا جدا بهذه الأخلاق العالية والرفيعة، وارتفعت الأصوات بالدعاء والثناء، وجعل هذا الخصم الأشيري يعتذر ويقول: أنا المذنب، أنا الأولى بالاعتذار، والوزير ابن هبيرة يقول القصاص القصاص، فتوسط أحد العلماء وقال يا مولانا إذا أبى القصاص فالفداء فقال الوزير حكمه يحكم بما شاء، احكم بما تريد، فقال هذا الفقيه نِعمُك علي كثيرة فأي حكمٍ بقي لي؟ فقال قد جعل الله لك الحكم علينا بما ألجأتنا به إلى الافتئات عليك، فقال عليَّ بقية دين منذ كنت بالشام، فقال الوزير ابن هبيرة يعطى مائة دينار لإبراء ذمته وذمتي، فأحضر له المال، وقال له ابن هبيرة عفا الله عنك وعني وغفر الله لك ولي!

هل نحن كذلك؟

     هل نحن كذلك؟ إذا كنا في مجلس وحصلت قضية مثل هذه كيف ستكون نتائجها؟ عداوة إلى يوم الدين، والقلب يتقطع والنفس حرقة على هذا الإنسان نسأل الله العفو والعافية. كلمات لم يخسر فيها شيء، بل ازداد بها رفعة، بل نحن نتحدث عنها بعد قرون وبعد مئات السنين، لو أنه بقي مع نفسه فكيف يكون حال هذه الصلة والعلاقة؟

ترفعوا أيها الإخوان

     ترفعوا أيها الإخوان ارتفعوا، وحلقوا، فالنفس يجذبها الطين فتجردوا من الأهواء والحظوظ النفسانية، هذا في مسائل العلم، أما في أمور المعاش والعلاقات الاجتماعية والتجارية وغير ذلك مما يعافسه الإنسان صباح مساء ولابد أن يجد فيه ما يجد من هضمٍ في حقه ومظلمةٍ وإساءةٍ وكلمةٍ ربما لا يتحملها كثيرٌ من الناس، فكيف يصنع؟ اسأل نفسك أنت لا تبحث في ذهنك وتذهب إلى إنسان آخر، اسأل نفسك ما موقفك حين يبلغك أن فلانا يتكلم في حقك ويقع في عرضك كيف تصنع؟ هل تعزم على عداوته ومقاطعته؟

وصية عظيمة

     الشافعي -رحمه الله- يوصينا بوصية في هذا المقام يقول: إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادره العداوة «لا تحكم مباشرة فتتخذ إجراء وتقطع الولاية فتكون ممن أزال يقينه بشك، فالثقة حاصلة متيقنة وهذا شكٌ عارض فلا يذهب اليقين بالشك»، ولكن قابله وقل له بلغني عنك، واحذر أن تسمي له المبلغ؛ فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر، ولا تحصره في زاوية ضيقة كما يفعل بعض الناس، لا تفعل، وإنما قل له أنت أصدق وأبر عندي، ولا تحقر وتجاوز ذلك.

     ثم يقول: وإن اعترف بذلك ورأيت له وجها لعذر، فاقبل منه، وإن لم تر له عذرا، فقل له ماذا أردت بما قد بلغني عنك؟ فإن ذكر ما له وجه من عذر، فاقبل منه، وان لم تر له وجها من العذر وضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة وزلة، ثم أنت بعد ذلك بالخيار إن شئت كافأته بمثلها من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه والعفو أقرب للتقوى، وأبلغ في الكرم؛ لقول الله -تعالى-: {وجزاء سيئة سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله}؛ فإن نازعتك نفسك بالمكافئة ففكر فيما سبق منه لديك من الإحسان فعده، ثم ابدر له إحسانا بهذه السيئة ولا تبخسن باقي إحسانه السالف بهذه السيئة؛ فإن ذلك الظلم بعينه يا يونس (ويوصي بذلك يونس الصدفي).

اتخاذ الصديق صعب

     إذا كان لديك صديق فشد بيديه؛ فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهلة، وقد صدق رجاء ابن حيوة -رحمه الله- حين قال: «من لم يؤاخِ إلا من لا عيب فيه قلَّ صديقه، ومن لم يرض من صديقه إلا الإخلاص له دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه»، والإنسان ظلوم لنفسه جهول، لابد أن تصدر منه أخطاء؛ فإذا كان ينقر معك على كل قضية وكل مثل، فهذا لا شك أنه أمر صعب، سل نفسك ما موقفك ممن وشي بك وشاية سيئة وأراد الإيقاع بك والإساءة اليك؟

جارية صفية

     هذه صفية أم المؤمنين -رضي الله عنها- لها جارية ذهبت إلى عمر متبرعة بوشاية وكانت صفية بنت حيي من اليهود وأسلمت، وتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي من أمهات المؤمنين، في خلافة عمر، ذهبت جارية لها إلى عمر تقول: إن صفية تحب السبت وتصل اليهود ، هذه تهمة تعني أنها ما زالت تحتفظ بلوثة يهودية، والسبت هو عيد اليهود ومعنى ذلك أنها تعظمه، فلم يعجل عليها عمر، ولم يقبل هذه الوشاية على أنها حقيقة ثابتة، ولكنة استدعى صفية وسألها عن ذلك؛ فقالت: أما السبت فلم أحبه منذ أن أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحما فأنا أصلها، ثم قالت للجارية ما حملك على ذلك, قالت: الشيطان, قالت: اذهبي فأنت حرة، ما أرادت أن تنتقم لنفسها!

ابن مسعود - رضي الله عنه 

     أما ابن مسعود ومن كان على شاكلته من أصحاب النفوس الكبيرة، خرج من بيته ووضع النقود في طية من طيات عمامته، وجلس عند بائع فاشترى منه طعاما، ثم أراد أن يخرج النقود فوجد أنها قد سرقت، فقال ابن مسعود لقد جلست وإنها لمعي! فتجمع مجموعة من الناس لمناصرته وإبداء المشاعر والأحاسيس، ويواسونه بهذا المصاب الذي وقع عليه، فجعلوا يدعون على هذا السارق: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، وجلس كل واحد منهم يدعو. أما ابن مسعود فقال: «اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه». لم يدعُ عليه بأي شيء، وإنما دعا له؛ فأصحاب النفوس الكبيرة يتذكرون في هذه المواقف قول الله تعالى-: {ادفع بالتي هي أحسن}؛  فهذا شعارهم.

عمر بن عبد العزيز -رحمه الله

     عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- خامس الخلفاء الراشدين مرض مرض الوفاة فسأل مجاهدا: ما يقول الله في مرضي؟ فقالوا: يقولون مسحور، ثم دعا غلاما فقال: ويحك ما حملك على أن سقيتني السم؟ فقال: ألف دينار أعطيتها وأن أعتق؛ فقال: هاتها فأخذها ووضعها في بيت المال ثم قال له: اذهب فأنت حر، لا يراك أحد، وهذا هو الخليفة ويعرف أنه هو الذي فعل هذا واعترف، فماذا فعل به؟ قال له اذهب فأنت حر.

الإمام مالك -رحمه الله

     والإمام مالك -رحمه الله- ضرب وجلد حتى تخلعت يداه، وكان يصلي مسدل اليدين؛ مما يجد من الألم، فلما جاء المنصور الخليفة العباسي إلى المدينة أراد أن يتجّمل عند الإمام مالك، فطلب إليه أن يقتص ممن حبسه وضربه وهو جعفر بن سليمان فماذا قال الإمام مالك؟ قال: «معاذ الله، ما قال هذا من الظلمة، نقتص منه ونؤدبه، الكبير لا ينتقم لنفسه، ولهذا ما انتقم النبي - صلى الله عليه وسلم - لنفسه قط».

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك