اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات
24 يناير، 2024
0 تعليق
أخلاق الإسلام في الحرب (3) الالتزام بالأخلاق والأحكام الشرعية في أثناء القتال
- نهى الإسلام عن تعمد قتل النساء والشيوخ والأطفال لأنهم ليسوا من أهل القتال غالبا ولا يشاركون فيه بوجه من الوجوه ولا مهيئين لذلك
من أعظم ما تتميز به شريعة الإسلام أنها شريعة أخلاقية، تلتزم بالأخلاق والقيم، وتسعى لتحقيقها وتكميلها في كل ظروفها وأحوالها، ولا سيما في أوقات الحروب التي تختبر فيها حقيقة هذه المبادئ، وتزول الأقنعة المزيفة التي تتجمل بها بعض الأمم في أوقات الرخاء والسلم، وهذه من أهم جوانب التفوق الحضاري للإسلام على ما سواه من الشرائع والنظم الدينية والوضعية، فالأديان السماوية المحرفة التي عبثت بها أيدي البشر تأمر في نصوصها صراحة بقتل الأبرياء ومن لا ذنب لهم والإفساد في الأرض.
وقد تكلمنا في الحلقات الماضية عن عظمة مبادئ الإسلام وأحكامه، وذكرنا من ذلك الأمر بالعدل مع جميع الخلق، وأهداف الحرب في الإسلام وذكرنا أنها أهداف أخلاقية، ثم تكلمنا عن التزام الإسلام بالعهود والمواثيق، وذكرنا أن الإسلام شدّد في الوفاء بالعهود، وأغلظ الوعيد في نقضها، واليوم نتكلم عن الالتزام بالأخلاق والأحكام الشرعية في أثناء القتال.
خامسًا: الالتزام بالأخلاق والأحكام الشرعية في أثناء القتال
قال -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: 190)، أي: ولا تعتدوا في هذا القتال بفعل ما لا يجوز وقتل من لا يحل قتله، قال ابن عباس في تفسير {وَلَا تَعْتَدُواْ}: «لا تقتلوا النساء، ولا الصبيان، ولا الشيخ الكبير، ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده، فإن فعلتم هذا فقد اعتديتم».
ومن الأحكام الشرعية التي سنها الإسلام في القتال ما يلي:
- أولاً: النهي عن قتل النساء والصبيان والشيوخ والزمنى والرهبان والعسيف الأجير
ففي حديث بريدة: «وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وفي رواية: ولا تقتُلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلًا، ولا صغيرًا، ولا امرأةً، وفي رواية: ولَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، ولَا أصحاب الصوامع»، وهذه الجملة الأخيرة في سندها ضعف، ولكن قال أبو جعفر الطحاوي -رحمه الله-: «وقد روي عن أبي بكر ما يوافق هذا المعنى… لما بعث الجنود نحو الشام: يزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة كان فيما وصاهم به: أن لا يقتلوا الولدان، ولا الشيوخ، ولا النساء، وقال: ستجدون قوما حبسوا أنفسهم على الصوامع، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم».
وكتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه إلى جنده-: «لَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلَّاحِينَ الَّذِينَ لَا يَنْصُبُونَ لَكُمُ الْحَرْبَ»، ومرّ -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على امرأة مقتولة، فَوَقَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ»، فَقَالَ لِأَحَدِهِمْ: «الْحَقْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا».
قال الخطابي: «فيه دليل على أن المرأة إذا قاتلت قُتِلت، ألا ترى أنه جعل العلة في تحريم قتلها أنها لا تقاتِل، فإذا قاتلت دل على جواز قتلها. والعسيف: الأجير والتابع، واختلفوا في جواز قتله، فقال الثوري: لا يقتل العسيف وهو التابع. وقال الأوزاعي نحوًا منه، وقال: لا يقتل الحراث إذا علم أنه ليس من المقاتلة، قال: وكذلك لا يقتل صاحب الصومعة ولا شيخًا فانيًا ولا صغيرًا.
فلا يجوز تعمد قتل هذه الأصناف إذا انفردت عن المقاتلين؛ لأنهم ليسوا من أهل القتال غالبا، ولا يشاركون فيه بوجه من الوجوه، ولا مهيؤون لذلك.
- ثانيًا: النهي عن التمثيل والتحريق بالنار
ومن هذه الأحكام أيضا: النهي عن التمثيل والتحريق بالنار: ففي حديث بريدة السابق: «ولا تمثلوا»، قال الخطابي: «المُثْلَةُ تعذيب المقتول بقطع أعضائه وتشويه خلقه قبل أن يقتل أو بعده، وذلك مثل أن يجدع أنفه أو أذنه، أو يفقأ عينه أو ما أشبه ذلك من أعضائه. قلتُ: وهذا إذا لم يكن الكافر فعل مثل ذلك بالمقتول المسلم، فإن مثَّل بالمقتول جاز أن يمثَّل به، ولذلك قطع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أيدي العرنيين وأرجلهم وسمر أعينهم، وكانوا فعلوا ذلك برعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم . والنهي عن التحريق بالنار ثبت من حديث حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ قَالَ: فَخَرَجْتُ فِيهَا، وَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَأَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ». فَوَلَّيْتُ فَنَادَانِي فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُحْرِقُوهُ، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ.
- ثالثًا: النهي عن الغدر في أثناء القتال
ومن ذلك: النهي عن الغدر في أثناء القتال، ففي حديث بريدة: «ولا تغدروا»، وكتب عُمَر بْن الْخَطَّابِ إلى عَامَلِ جَيْشٍ كَانَ بَعَثَهُ: «إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ يَطْلُبُ الْعِلْجَ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ فِي الْجَبَلِ وَامْتَنَعَ قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: مَتْرَسْ -يَقُولُ: لَا تَخَفْ- فَإِنْ أَدْرَكَهُ قَتَلَهُ، وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَبْلُغَنِّي أَنَّ أَحَدًا فَعَلَ ذَلِكَ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وقال البخاري في صحيحه: «وَقَالَ عُمَرُ: إِذَا قَالَ: مَتْرَسْ فَقَدْ آمَنَهُ، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ الْأَلْسِنَةَ كُلَّهَا».
ومن وصايا أبي بكر - رضي الله عنه - العظيمة لما بعث جيوشه إلى الشام: «وَإِنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً، وَلَا بَعِيرًا، إِلَاّ لِمَأْكَلَةٍ، وَلَا تُغَرِّقَنَّ نَحْلًا، وَلَا تَحْرِقَنَّه، وَلَا تَغْلُلْ، وَلَا تَجْبُنْ».
- سادسا: الأمر بالإحسان للأسرى
قال -تعالى-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان: 8)، قال ابن كثير -رحمه الله-: «قال ابن عباس: كان أسراؤهم يومئذ مشركين. ويشهد لهذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء».
يشير بذلك إلى ما أخرجه الطبري في تاريخه عن محمد بن إسحاق قال: حدثني نبيه بن وهب أخو بني عبد الدار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أقبل بالأسارى فرقهم في أصحابه، وقال: «استوصوا بالأسارى خيرًا»، قال: وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى. قال: فقال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شد يديك به؛ فإن أمه ذات متاع، لعلها أن تفتديه منك. قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز، وأكلوا التمر لوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحني بها. قال: فأستحيي، فأردها على أحدهم فيردها علي ما يمسها.
تقسيم الفقهاء للأسرى الفقهاء يقسمون الأسرى لنوعين:
- قسم لا يجوز قتله بحال: وهم النساء والأطفال ومن ذكرنا في أصناف من لا يجوز قتالهم.
- والرجال البالغون الذين يقاتلون فعلا أو مهيؤون لذلك، وهؤلاء يخير الإمام فيهم بين: القتل، والاسترقاق، والفداء، والمنّ، وهذا التخيير تراعى فيه مصلحة المسلمين.
وهنا ثلاث ملاحظات:
أنه على أي خيار اختاره الإمام، فإنه يجب الإحسان للأسرى، وعدم تعذيبهم، أو الإساءة إليهم ففي شرح السير الكبير: «وإن رأى الإمام قتل الأسارى فينبغي له ألا يعذبهم بالعطش والجوع، ولكنه يقتلهم قتلا كريمًا، فلا يجوز تجويعهم، أو التمثيل بهم، أو تعذيبهم ونحو ذلك، مما يناقض وصيته العامة: «استوصوا بالأسارى خيرًا».
- الثانية: هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأسرى
كان أكثر هديه - صلى الله عليه وسلم - في الأسرى المنّ أو الفداء أو الاسترقاق، والقتل وقع لقلة من عتاة المشركين وصناديدهم، أو الخونة كبني قريظة -كمجرمي الحرب في زماننا-، ومن سوى ذلك فكانت الخيارات الأخرى، فأسارى بدر قبِلَ فيهم الفداء، وأسارى مكة منَّ عليهم بإطلاقهم، وأسرى بني المصطلق منّ عليهم المسلمون بإطلاقهم بلا مقابل لما تزوج النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - جويرية بنت الحارث، ومنّ على أسرى هوازن لما جاءه وفد هوازن، ومنّ على ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة بإطلاق سراحه، فأسلم من فوره بعدما رأى من حسن المعاملة وصلاح المسلمين، وهذه الأخبار مشهورة معروفة في كتب السنن والسير.
- الثالثة: معاهدة المسلمين للمشركين
أنه إذا عاهد المسلمون المشركين على عدم قتل الأسرى من الجانبين، فإن ذلك جائز، ويكون ذلك العهد ملزما للجانبين، ما لم ينقضوه، ويدخل ذلك في الوفاء بالعقود والعهود التي أمر بها الإسلام، وليس ذلك من باب تحريم ما شرعه الله؛ لأنه لا يحرم ذلك، ولكن يلتزم بعدم فعل هذا الخيار إذا ما التزم به المشركون في أسراهم من المسلمين، فإذا رأى الإمام أن ذلك يحقق مصلحة المسلمين لم يكن عليه في التزام ذلك حرج.
لاتوجد تعليقات