أخطاء الواقفين (8-10) اشتراط عدم المشاركة في الوقف الواحد
قد يظن الواقف بأن أجر الوقف لا يكتب في صحائفه إلا إذا انفرد بالوقف وحده، مع عجزه – أحياناً - وقلة موارده لإتمامه، ولا شك أن ذلك من الأخطاء فتعدد الواقفين - الوقف الجماعى والمشاركة في الوقف- من المسائل الفقهية الجائزة؛ حيث يقول السرخسى: «ولو تصدق كل واحد منهما بنصف صدقة موقوفة على المساكين وجعلا الوالى لذلك رجلا واحدا فسلماها إليه جاز». ويؤكد ذلك بقوله «فلقد صار الكل صدقة واحدة مع كثرة المتصدقين»(1).
والوقف الجـماعي صـورة من صـور التـعـاون على البـر والتـقــوى، وفـيـه تجــمـيع للأسهم وللحصص الصغـيرة وجعلها في صندوق أو محفظة لتوقف مجتمعة لخدمـة مشـروعات الخيـر المتعددة. ولا شك أن ذلك يشـجع علـى الوقـف بين قطـاعــــات عــريضــة من النـاس ويؤمن مـصادر لتـمويل مـشروعـات الخير.
ومن أهم مشكلات الوقف فى العصر الحاضر قلة إنشاء أوقاف جديدة، ومن أسباب ذلك أنه استقر فى الأذهان أن الواقف لابد أن يكون ثريا جدا، وأن الوقف يجب أن يكون بمال كثير تعجز عنه إمكانيات الكثير من المسلمين الآن الذين يرغبون فى الصدقات الجارية بالوقف، وبذلك يمكن إنشاء صندوق وقفى لغرض خيرى ودعوة العديد من المسلمين للإسهام فى تكوين مال الوقف اللازم له استنادا إلى جواز مسألة تعدد الواقفين والغرض واحد (2).
خلط مال الوقف بمال غيره:
ينبغي أن تكون أمور الوقف واضحة جلية؛ فالوقف له ذمة مالية مستقلة عن غيره، والخلط في ذلك يضيع حقوق الوقف، وحقوق الموقوف عليهم؛ فإذا ما اختلط مال الوقف بمال غيره من غير تفصيل سهل على البعض الاعتداء عليه، والادعاء بادعاءات باطلة، فلا بد أن تكون أصول الوقف واضحة محددة وموثقة ومشهوداً عليها، بوثائق تثبت الوقف وشروطه وطرق إدارته.
فالواقف ذمته مستقلة عن ذمة الوقف، فمتى ما أوقف الوقف فإن الموقوف يخرج من ملك الواقف، لذا تعتمد آلية الوقف حقيقة على المحافظة على رأس مال الوقف، وصرف الغلة والربح والثمرة للموقوف عليهم في مختلف وجوه الخير والمصالح العامة.
فيجب على ناظر الوقف، سواء كان الواقف أم غيره، وسواء كان قاضياً أم متولياً أوم ديواناً أم نظارة أم وزارة، أن يحافظ على أصل الوقف مادياً (وهو الحفظ المادي) كحفظ العين العقارية الموقوفة، أو المال النقدي، أو المال المنقول، أو المال المتمثل بالمنافع، كما يجب عليه حفظ وثيقة الوقف التي تم توثيق الوقف بها (وهو الحفظ المعنوي)؛ لأن الوقف خرج عن ملك الواقف إلى ملك الله تعالى «عند الجمهور» فلا يحق لأحد التصرف فيه، ولا يجوز الاعتداء عليه، أو الغصب، أو وضع اليد، إلا بطريق شرعي مأذون فيه(3).
وقف الأرض المغتصبة:
وتلك من طرق التحايل علي الوقف، بأن يغتصب ضعاف النفوس أرضاً أو بيتاً ثم يوقفوه ويجعلوا ريعه على أنفسهم وذراريهم؛ أو يضعوا أيديهم أيضاً على أراضٍ مشاعة ثم يتحايلوا بصياغة وثائق ويجعلوها وقفاً على مصارف تعود عليهم بالمنفعة كما يريدون.
واجتهد العلماء والفقهاء في تنبيه العامة والخاصة على حرمة التعدي على الأوقاف، واجتمعوا على أن الاعتداء وغصب العين الموقوفة محرم؛ لعموم الأدلة الدالة على تحريم ذلك، ومنها قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة:190). وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوق يوم القيامة من سبع أرضين» (4).
ونص العلماء إذا كانت العين المغصوبة موجودة في يد غاصبها، وجب ردها بلا خلاف بين العلماء، لعموم وجوب رد العين المغصوبة (5). ودليل ذلك: ما رواه سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» (6).
تبديد الأصول الوقفية:
وذلك بان يقترض من أجل الوقف، ولا يسدد هذا القرض، فيتحمل الوقف أعباء الديون مع قلة إيراداته، وهذا استغلال للوقف وتحميله مالا يحتمل. وفي الموسوعة الفقهية: «أما الاستقراض على الوقف , فهو جائز لداعي المصلحة». فالاستدانة على الوقف لا تجوز إلا إذا احتيج إليها لمصلحة الوقف كتعمير وشراء بذر فتجوز بشرطين: الأول إذن القاضي. الثاني: أن لا يتيسر إجارة العين والصرف من أجرتها. قال في شرح البهجة: ولا يجوز أن يأخذ من مال الوقف شيئا على أن يضمنه، فإن فعل ضمنه، وإقراض مال الوقف كإقراض مال الصبي.
ومن صور تبديد الأصول الوقفية إقراض مال الوقف بدون ضوابط، وللفقهاء أقوال في ضوابط إقراض مال الوقف، وإجازة البعض بضوابط وشروط دقيقة منها أن يكون في إقراضه أكثر حرزا لمال الوقف، وأن يكون ذلك عند الضرورة، وأن يكون ذلك من قبل القاضي أو بإذنه للناظر، وأخذ رهن عليه، وأن يكون المستقرض ذا أمانة وخلق ومتكسبا قادرا على السداد.
وصورة أخرى لتبديد الأصول الوقفية المضاربة غير الآمنة التي تضيع أصول الوقف ونقده، وذلك في الدخول في مضاربات نسبة المخاطرة فيها عالية، بل ويكون القصد من ذلك أحياناً تنفيع بعض المقربين أو من تجمعهم مصالح مشتركة، كأخذ نسبة من ذلك الربح، وغير ذلك من أوجه التهاون في مال الوقف.
التسويف والتردد في الوقف:
الوقف فضل من الله - سبحانه - على عباده، الموفق من وفقه الله إلى الخير، ومن أعظم مسالك البر والقربة، وأجل الطاعات، الوقف الذي تجري معه الحسنات في الحياة وبعد الممات.
فمتى عزم الواقف واستخار واستشار، فلا يؤجل وقفه، ويمضي فيه، ويوثقه، ويُشهد عليه، فلا يدري ما يطرأ عليه في قادم أيامه، أو بعد مماته، هل يمضي ورثته ذلك الوقف، أم سيجدون المسوغات لتعطيله؟!
فإقرار الوقف والمضي في حبسه توفيق من الله تعالى لعبده، قال جابر الأنصاري رضي الله عنه: «لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذا مقدرة إلا وقف»(7).
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي الله صلى الله عليه وسلم: «أيُّكُمْ مالُ وارثِهِ أحبُّ إليهِ مِنْ مالِهِ؟»، قالوا: يا رسولَ الله! ما منَّا أحدٌ إلا مالُهُ أحبُّ إليْهِ! قال: «فإنَّ مالَهُ: مَا قدَّم، ومَالُ وارثِه: ما أخَّر»(8).
فمال العبد في الحقيقة هو: ما قدم لنفسه ليكون له ذخراً بعد موته، وليس ماله: ما جمع فاقتسمه الورثة بعده، فالذي يخلفه الإنسان من المال وإن كان منسوباً إليه؛ فإنه بانتقاله إلى وارثه يكون منسوباً للوارث. والوقف خير استثمار؛ وإن فنيت الأعمار.
الهوامش:
1- المبسوط للسرخسى: 12/38-39
2- انظر ندوة: التطبيق المعاصر للوقف تجربة صناديق الأوقاف وآفاق تطبيقها في المجتمع الإسلامي في روسيا -الفترة من 14-17/6/2004م بمدينة قازان – جمهورية تتارستان، والورقة المقدمة بعنوان التخطيط والموازنات في إدارة صناديق الأوقاف للدكتور/ محمد عبد الحليم عمر.
3- حاشية ابن عابدين 3/408، 441-444، فتح القدير 6/206، 214، 223، الروضة 5/348، الفقه الإسلامي وأدلته 8/214، 233، الوقف ودورة في التنمية، الهيتي ص48.
4- اخرجه البخاري في صحيحه برقم 2452، ومسلم برقم 4137.
5- انظر حاشية ابن عابدين 6/193، والقوانين الفقهية ص 349، ومغني المحتاج 2/277، والمغني 7/361.
6- أخرجه أحمد في المسند 5/12، وأبو داود في السنن في كتاب البيوع برقم 3561، والترمذي في الجامع في كتاب البيوع برقم 1261.
7- أخرجه أبو بكر الخصاف في «أحكام الوقف»، رقم: (15).
8- أخرجه البخاري في «صحيحه»، في (كتاب: الرقاق، باب: ما قدم من ماله فهو له)، برقم: (6442).
لاتوجد تعليقات