رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 15 سبتمبر، 2020 0 تعليق

أخطاء الواقفين (6)


شرع الوقف لأهداف سامية، ومقاصد نبيلة، وامتاز بتنظيم محكم دقيق، وقد أولى فقهاء الأمة ومحدثوهم العمل الوقفي والخيري والوقفي اهتماماً واضحاً، فأصلوه تأصيلاً شرعياً، وحددوا له الشروط والضوابط والمقاصد والغايات، إلا أن ذلك لم يمنع بعض الواقفين من الانحراف به عن نهج الشريعة، وقصد الشارع من إنشائه، نتيجة لبعد الناس عن تعاليم الإسلام الحقة، وجهلهم بمعرفة الحكمة من تشريع هذه الأحكام، وهذا ما نتناوله في هذه السلسلة من أخطاء الواقفين.

تبديد الأصول الوقفية

     وذلك بأن يقترض من أجل الوقف، ولا يسدد هذا القرض، فيتحمل الوقف أعباء الديون مع قلة إيراداته، وهذا استغلال للوقف وتحميله مالا يحتمل، وفي الموسوعة الفقهية: «أما الاستقراض على الوقف، فهو جائز لداعي المصلحة»، فالاستدانة على الوقف لا تجوز إلا إذا احتيج إليها لمصلحة الوقف كتعمير بذر وشرائه فتجوز بشرطين: الأول إذن القاضي، والثاني: ألا يتيسر إجارة العين والصرف من أجرتها. قال في شرح البهجة: ولا يجوز أن يأخذ من مال الوقف شيئا على أن يضمنه، فإن فعل ضمنه، وإقراض مال الوقف كإقراض مال الصبي.

     ومن أنواع تبديد الأصول الوقفية إقراض مال الوقف دون ضوابط، وللفقهاء أقوال في ضوابط إقراض مال الوقف، وإجازة بعضهم بضوابط وشروط دقيقة، منها: أن يكون في إقراضه أكثر حرزا لمال الوقف، وأن يكون ذلك عند الضرورة، وأن يكون ذلك من قبل القاضي أو بإذنه للناظر، وأخذ رهن عليه، وأن يكون المستقرض ذا أمانة وخلق ومتكسبا قادرا على السداد.

     ونوع آخر لتبديد الأصول الوقفية المضاربة غير الآمنة التي تضيع أصول الوقف ونقده، وذلك في الدخول في مضاربات نسبة المخاطرة فيها عالية، بل ويكون القصد من ذلك أحياناً تنفيع بعض المقربين أو من تجمعهم مصالح مشتركة، كأخذ نسبة من ذلك الربح، وغير ذلك من أوجه التهاون في مال الوقف.

التسويف والتردد في الوقف

     الوقف فضل من الله - سبحانه - على عباده، والموفق من وفقه الله إلى الخير، ومن أعظم مسالك البر والقربة، وأجل الطاعات، الوقف الذي تجري معه الحسنات في الحياة وبعد الممات، فمتى عزم الواقف واستخار واستشار، فلا يؤجل وقفه، ويمضي فيه، ويوثقه، ويُشهد عليه، فلا يدري ما يطرأ عليه في قادم أيامه، أو بعد مماته، هل يمضي ورثته ذلك الوقف، أم سيجدون المسوغات لتعطيله؟ فإقرار الوقف والمضي في حبسه توفيق من الله -تعالى- لعبده، قال جابر الأنصاري -رضي الله عنه-: «لم يكن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا مقدرة إلا وقف».

     عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّكُمْ مالُ وارثِهِ أحبُّ إليهِ مِنْ مالِهِ؟»، قالوا: يا رسولَ الله، ما منَّا أحدٌ إلا مالُهُ أحبُّ إليْهِ، قال: «فإنَّ مالَهُ: مَا قدَّم، ومَالُ وارثِه: ما أخَّر»، فمال العبد في الحقيقة هو: ما قدم لنفسه ليكون له ذخراً بعد موته، وليس ماله: ما جمع فاقتسمه الورثة بعده، فالذي يخلفه الإنسان من المال وإن كان منسوباً إليه؛ فإنه بانتقاله إلى وارثه يكون منسوباً للوارث. والوقف خير استثمار؛ وإن فنيت الأعمار.

الظن بأن الوقف لا ينعقد إلا بالكتابة

قال أهل العلم: «ينعقد الوقف بالعبارة أو الكتابة، فإذا كان الواقف عاجزًا عنهما انعقد الوقف بالإشارة المفهمة»، والوقف ينعقد بصيغ متعددة وهي كالآتي:

- أولاً: اللفظ: ويقصد بذلك العبارة الصادرة عن المتكلم التي تعبر عن إرادته في ترتيب آثاره ولزوم تصرفه، وتكاد تجمع كتب الفقه قديماً وحديثًا على أن صيغة الماضي أصرح الصيغ في الكشف عن إرادة المتلفظ وبيانها بيانًا جازمًا لا تردد فيه ولا احتمال؛ لأن الشرع قد نقلها إلى الإنشاء مثل: وقفت وحبست وسبلت، كقول الواقف بيتي هذا موقوف ومحبوس.

- ثانياً: التعبير بالأفعال: ذهب جمهور الفقهاء إلى صحة انعقاد الوقف بالفعل مع القرائن الدالة عليه، مثل أن يبني مسجدًا ويأذن للناس بالصلاة فيه، أو مقبرة ويأذن في الدفن فيها، أو سقاية ويأذن في دخولها، جاء في مواهب الجليل: من بنى مسجداً وأذن في الصلاة فيه فكالصريح؛ لأنه وقف وإن لم يخص زماناً ولا شخصاً ولا قيد الصلاة فيه بفرض ولا نفل فلا يحتاج إلى شيء من ذلك ويحكم بوقفيته.

- ثالثاً: التعبير بالكتابة: يجوز التعبير عن الوقف بالكتابة من غير لفظ؛ لأن القلم أحد اللسانين وهي إحدى طرائق التعبير عن الإرادة كالعبارة سواء بسواء.

- رابعاً: شهادة السماع: يثبت الوقف بشهادة السماع وبيان مصرفه فإذا اشتهر أن فلاناً وقف على كذا جاز له أن يشهد به؛ لأنه إن لم يجز أدى ذلك إلى استهلاك الأوقاف.

الثقة المطلقة في كُتّاب وثيقة الوقف

     من المشاهد أن أكثر الواقفين يضعون ثقتهم في الكتاب لوثيقة الوقف، ويفوضون لهم تحرير ما يريدون، بل إن بعضهم يطلب من أناس ليسوا من أهل الاختصاص بهذا العلم والدراية بأحكام الوقف وتشريعاته وضوابطه وقوانينه، ولا شك أن يؤدي إلى عاقبة مؤلمة، تخرج الوقف عن مقصده، وتخالف شروط الواقف التي قصدها في وقفه، فلابد أن يكون الكاتب ذا ضبط ودقة وعناية لتسلم وثيقة الوقف من الأخطاء التي قد تضر بالوقف والموقوف عليهم, وغالباً يحصل ذلك لقلة خبرة الكاتب، ولا بد حين كتابة وثيقة الوقف أن تسلم من الأخطاء التي قد تغير من مقاصد الواقفين، ولعل بعضها يتضمن مخالفات شرعية.

     وعلى الواقف أن يتحرى تدوين ثبوت الوقف أو تسجيل إنشائه على وجه يحتج به شرعًا، ولا يتم ذلك إلا بالموثق المؤهل الذي توافرت لهم الخبرة التامة بأمور التوثيق والدراية بالمسائل الشرعية، وأحكام القانون الذي يضبط الأوقاف في البلد الذي ينعقد فيه الوقف، حتى لا يؤدي الوقف إلى خلق متاعب وخصومات طويلة ملتوية لا مسوغ لها.

عدم تعيين الوقف

     لا يصح الوقف إذا لم يكن العين الموقوفة معيَّنة، فلو وقف إحدى دارَيه، أو إحدى سيّارتَيه من غير تعيين للموقوف، فإن هذا الوقف غير صحيح لعدم بيان العين الموقوفة، وكان قوله هذا أشبه بالعبث، لا بالجد، فلابد أن يكون الموقوف عينًا معيَّنة، وكذلك يعد في العين الموقوفة أن تكون عيناً موجودة فلا يصح وقف الدين، كقوله: وقفت ما هو لي في ذمة زيد من فرش أو إناء أو نحوهما، أو قال: وقفت فرساً أو عبداً من دون تعيين، فالواقف لا بد أن يكون مالكاً للعين الموقوفة، مختاراً، نافذ التصرف فيها بالعقل وعدم الحجر لسفه أو رق أو فلس.

لا يوقف إلا إن كان غنياً

     فهذا ظن الكثير من الناس أن الوقف مقصور على الأغنياء، فلا يوقف ضعيف الحال أو متوسط الدخل في حياته شيئاً، وقد أخبرنا حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم أن أموراً سبعة يجري ثوابها على الإنسان في قبره بعد ما يموت فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سبع يجري للعبد أجرهُنَّ وهو في قبره بعد موته: من علّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورَّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته».

      والحديث جمع سبعًا من الأعمال التي تُعد من الوقف الإسلامي، والتي تجري فيها الحسنات لصاحبها إلى ما بعد الممات، وتتنوع تلك الأعمال لتوسيع دائرة الكُلفة والاختيار، وهذا من فضل الله عز وجل على عباده ورحمته بهم أن فتح لهم أبواباً من الخير ما يدوم فيها الأجر والمثوبة، وفي إحداها توريث المصحف، وتوزيع نسخه ووقفها في المساجد والمستشفيات وأماكن الانتظار والتجمعات، أجرٌ عظيم كلما تلا في ذلك المصحف تالٍ، وكلما تدبر فيه متدبر، وكلما عمل بما فيه عامل.

     وقد هيأ الله -عز وجل- في عصرنا مؤسسات وقفية تنشر ثقافة الوقف، وترعى الأوقاف، وتجمع الأسهم الوقفية، وتتبنى المشاريع الوقفية، وتيسر للناس سبل الإسهام والمشاركة في المشاريع الوقفية، فيمكن للمسلم مهما كان وضعه المادي أن يجعل لنفسه وقفاً ولو كان غرس نخلة.

وقف الكثير على فئة قليلة من الناس

     حيث يوقف الواقف مالاً كبيراً على مصارف ضئيلة، كأن يوقف مجمعًا عقاريًا على أولاده، وليس له إلا ولد أو ولدين، أو كأن يوقف على طلبة علم من العلوم لا يدرسه إلا ما ندر من الطلاب وليس للمجتمع حاجة لتخصص الكثيرين في هذا العلم، فالبعض قد ينجذب ويدفعه شغفه واهتمامه في فن من الفنون لأن يوقف له المال الكثير، والفقراء من حوله بأمس الحاجة إلى مد يد العون لهم، فالأولى توسيع مصارف الوقف حتى يشمل التوزيع أكبر عدد ممكن من أهل الحاجة، وهذا من مقاصد الوقف الذي يرعى حاجات المجتمع بفئاته، فيبدأ بالفقراء ثم ينتقل إلى غيرهم.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك