أخطاء الواقفين (5)
شرع الوقف لأهداف سامية، ومقاصد نبيلة، وامتاز بتنظيم محكم دقيق، وقد أولى فقهاء الأمة ومحدثوهم العمل الوقفي والخيري والوقفي اهتماماً واضحاً، فبوبوا له الأبواب وقعدوا له القواعد، وبحثوا في مسائله ومستجداته، فأصلوه تأصيلاً شرعياً، وحددوا له الشروط والضوابط والمقاصد والغايات، إلا أن ذلك لم يمنع بعض الواقفين من الانحراف به عن نهج الشريعة، وقصد الشارع من إنشائه، وليس في ذلك عيب في الوقف ونظامه وأحكامه، إلا أن التطبيق العملي لهذه الأحكام قد أخرج بعضها عن الأهداف التي شرعت لأجلها، والمقاصد التي جاءت لتحقيقها، وذلك نتيجة لبعد الناس عن تعاليم الإسلام الحقة، وجهلهم بمعرفة الحكمة من تشريع هذه الأحكام، وهذا ما نتناوله في هذه السلسلة من أخطاء الواقفين.
عدم قطع النزاع فيمن سيتولى نظارة الوقف
الكثير من المنازعات التي تحصل في الأوقاف، تبدأ في النزاع حول الأحقية في النظارة، وفي ترك الوقف بلا ناظر إضاعة له، وكذلك جعل التنازع بين الأبناء أو غيرهم من غير حسم أمر النظارة تكون سبباً في إضاعة الوقف الذي سيؤدي حتماً إلى إضاعة المال، وإذا ظهر نزاع ودعوى في أحقية تولية الوقف بين الأبناء فنص أهل العلم على أن يولي القاضي ناظراً على الوقف لحين قطع النزاع وتوجيه توليه؛ لأن التولية على الوقف واجبة إذا لم تتم مصلحة قبض المال وصرفه إلا به، فإنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
إذن المرأة لمحارمها وموافقتهم قبل أن توقف
لا يشترط موافقة أحد من محارم المرأة على وقفها، فلها أن تنشئ وقفها الخاص؛ لأن ذلك من حقها فهي المالكة لذلك المال، فالشريعة الإسلامية جعلت للمرأة الحق في الملك ملكاً خاصاً بها، وجعلها صاحبة السلطان في إدارته والتصرف فيه، فأعطى الإسلام المرأة حق التملك وحق التصرف في ملكها بما تشاء من: البيع، والشراء، والهبة، والصدقة، والوصية، والإجارة، والإنفاق، والوقف، والرهن، كما أن للمرأة حق التقاضى والدفاع عن نفسها، وعن ملكها، كما أن للمرأة حق إقامة الدعوى، وفي صفحات التاريخ أخبار تدفع المسلمين رجالاً ونساء على الوقف، والفقهاء من جميع المذاهب استدلّوا بأوقاف النساء من أمّهات المؤمنين وغيرهن- رضي الله عنهنّ- لجواز أنواع من الوقف ولاستنباط بعض الأحكام.
فإن كان من حق في التصرف في جميع مالها أو أملاكاً إذا كانت حرة رشيدة ما دام ذلك التصرف في دائرة المباح، من باب أولى إذا كان ذلك في القربات والطاعات؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته المشهورة أمر النساء أن يتصدقن ولو من حليهن، ولما تصدقن قبل منهن ما تصدقن به ولم يسألهن هل يملكن غير ما تصدقن به؟ وهل استأذن أولياءهن -أزواجاً أو غير أزواج- في ذلك؟ وهذا هو قول جمهور الفقهاء. وما سبق لا يمنع المشورة والتوجيه من المحارم وأهل الاختصاص، حتى يحقق وقفها النفع والاستدامة.
الامتناع عن الوقف الذي يخدم الدولة
الامتناع عن الوقف الذي يخدم الدولة أو يظن أنه من اختصاصات الدولة والحكومة، فيمتنع عن وقف المدارس أو المستشفيات أو مراكز التوجيه والإرشاد ومراكز تأهيل الأيتام ورعايتهم والعجزة، أو غيرها من المؤسسات التي تخدم المجتمع، ظناً منه أن ذلك من واجبات الدولة في توفيرها، وهذا من الأخطاء الشائعة، ففي العهود الإسلامية كانت دولة الإسلام دولة قوية وغنية، ومع ذلك أوقفت الأوقاف التي تخدم الدولة، وكان لها الدور الأكبر في مواجهة الكثير من التحديات والمشكلات التي واجهت أمتنا الإسلامية عبر تاريخها الحضاري، فأسهم الوقف في كل مناحي الحياة الاجتماعية والعلمية والعسكرية الدعوية والإنمائية، وتاريخ الوقف مليء بأعاجيب ومشاريع تثير الفخر في النفوس، حتى في عهد ازدهار الدولة الإسلامية وفي فترات رخائها وغنائها، تكفلت الأوقاف بمعظم أعباء التعليم الأساسي والجامعي والشؤون الصحية والبنية الأساسية، وصرفت على متطلبات الأمن والدفاع، وأسهمت في تنمية التعليم والدراسة منذ مرحلة الطفولة حتى المراحل الدراسية العليا المتخصصة.
اشتراط عدم المشاركة في الوقف الواحد
قد يظن الواقف بأن أجر الوقف لا يكتب في صحائفه إلا إذا انفرد بالوقف وحده، مع عجزه - أحياناً - وقلة موارده لإتمامه، ولا شك أن ذلك من الأخطاء فتعدد الواقفين - الوقف الجماعى والمشاركة في الوقف- من المسائل الفقهية الجائزة؛ حيث يقول السرخسى: «ولو تصدق كل واحد منهما بنصف صدقة موقوفة على المساكين وجعلا الوالى لذلك رجلا واحدا فسلماها إليه جاز». ويؤكد ذلك بقوله «فلقد صار الكل صدقة واحدة مع كثرة المتصدقين»، والوقف الجماعي نوع من أنواع التعاون على البر والتقوى، وفيه تجميع للأسهم وللحصص الصغيرة وجعلها في صندوق أو محفظة لتوقف مجتمعة لخدمـة مشروعات الخير المتعددة. ولا شك أن ذلك يشجع على الوقف بين قطـاعات عريضة من الناس، ويؤمن مصادر لتمويل مشروعات الخير، ومن أبرز مشكلات الوقف في العصر الحاضر قلة إنشاء أوقاف جديدة، ومن أسباب ذلك أنه استقر فى الأذهان أن الواقف لابد أن يكون ثريا جدا، وأن الوقف يجب أن يكون بمال كثير، تعجز عنه إمكانات الكثير من المسلمين الآن الذين يرغبون فى الصدقات الجارية بالوقف، وبذلك يمكن إنشاء صندوق وقفى لغرض خيرى، ودعوة العديد من المسلمين للإسهام فى تكوين مال الوقف اللازم له استنادا إلى جواز مسألة تعدد الواقفين والغرض واحد.
خلط مال الوقف بمال غيره
ينبغي أن تكون أمور الوقف واضحة جلية؛ فالوقف له ذمة مالية مستقلة عن غيره، والخلط في ذلك يضيع حقوق الوقف، وحقوق الموقوف عليهم؛ فإذا ما اختلط مال الوقف بمال غيره من غير تفصيل سهل الاعتداء عليه، والادعاء بادعاءات باطلة، فلا بد أن تكون أصول الوقف واضحة محددة وموثقة ومشهوداً عليها، بوثائق تثبت الوقف وشروطه وطرائق إدارته، فالواقف ذمته مستقلة عن ذمة الوقف، فمتى ما أوقف الوقف فإن الموقوف يخرج من ملك الواقف؛ لذا تعتمد آلية الوقف حقيقة على المحافظة على رأس مال الوقف، وصرف الغلة والربح والثمرة للموقوف عليهم في مختلف وجوه الخير والمصالح العامة.
فيجب على ناظر الوقف، سواء كان الواقف أم غيره، وسواء كان قاضياً أم متولياً أم ديواناً أم نظارة أم وزارة، أن يحافظ على أصل الوقف مادياً (وهو الحفظ المادي) كحفظ العين العقارية الموقوفة، أو المال النقدي، أو المال المنقول، أو المال المتمثل بالمنافع، كما يجب عليه حفظ وثيقة الوقف التي وثق الوقف بها (وهو الحفظ المعنوي)؛ لأن الوقف خرج عن ملك الواقف إلى ملك الله -تعالى- «عند الجمهور» فلا يحق لأحد التصرف فيه، ولا يجوز الاعتداء عليه، أو الغصب، أو وضع اليد، إلا بطريق شرعي مأذون فيه.
وقف الأرض المغتصبة
وتلك من طرائق التحايل علي الوقف، بأن يغتصب ضعاف النفوس أرضاً أو بيتاً ثم يوقفوه ويجعلوا ريعه على أنفسهم وذراريهم؛ أو يضعوا أيديهم أيضاً على أراضٍ مشاعة ثم يتحايلوا بصياغة وثائق ويجعلوها وقفاً على مصارف تعود عليهم بالمنفعة كما يريدون، واجتهد العلماء والفقهاء في تنبيه العامة والخاصة على حرمة التعدي على الأوقاف، واجتمعوا على أن الاعتداء وغصب العين الموقوفة محرم؛ لعموم الأدلة الدالة على تحريم ذلك، ومنها قوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة:190). وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوق يوم القيامة من سبع أرضين». ونص العلماء إذا كانت العين المغصوبة موجودة في يد غاصبها، وجب ردها بلا خلاف بين العلماء، لعموم وجوب رد العين المغصوبة ودليل ذلك: ما رواه سمرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي».
لاتوجد تعليقات