رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 16 يوليو، 2020 0 تعليق

أخطاء الواقفين (2)


 

الأخطاء في تطبيق الوقف، يقع فيها الواقف -غالباً- عن غير قصد منه، وأحيانا تقع تلك الأخطاء مع حرص الواقف في استمرار وقفه، وتحقيق منافعه للموقوف، إلا أن الحرص وحده لا يكفي إن لم يقترن معه الوعي التام، والتوجيه المبني على أسس علمية وشرعية وقانونية، ولا شك أن تسليط الضوء، وكشف غير الصواب الذي يمارسه بعض الواقفين باب عظيم من أبواب إحياء سنة الوقف ونشر ثقافته، ونجاح مؤسساته واستمرار نمائه وعطائه، واليوم نستكمل الحديث عن تلك الأخطاء.

(6) الوقف بقصد الإضرار بالورثة

     نظام الوقف نظام محكم، جاء لتحقيق مصالح الناس وتوفير حاجاتهم، إلا أن بعضهم استغل ذلك النظام ليكون طريقاً لحرمان الورثة أو بعضهم من حقوقهم في الميراث، وهذه العلة قديمة، حذر منها سلفنا الصالح، وعالج مسائلها الفقهاء، بعد أن عمد بعض الناس إلى استغلال الوقف استغلالاً يبعده عن مقاصده وأهدافه التي شرع لتحقيقها، وفي مقدمتها الإضرار بالورثة، وفي ذلك بعدٌ عن قصد البر والتقوى والقربة إلى الله -تعالى-، وجريان الحسنات إلى ما بعد الممات، فمنهم من تعمد الوقف بماله كله أو جله قبل موته، ليضر الورثة أو بعضهم، ومما لا شك فيه أن هذا التصرف مخالف للشريعة ومقاصدها؛ لذا تصدى له الفقهاء والعلماء، وأوجدوا له الحلول لكي لا يخرج الوقف عن مقاصده، وإعادته إلى نبعه النقي، فالشوكاني يقول: «من وقف شيئاً مضارة لوارثه كان وقفه باطلاً»، والحاصل أن الأوقاف التي يراد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل، ومخالفة فرائض الله -عزوجل- باطلة من أصلها لا تعقد بحال؛ لأن الواقف لم يرد من وقفه التقرب إلى الله -تعالى-، بل أراد المخالفة لأحكام الله -تعالى-، والمعاندة لما شرعه لعباده.

الوقف للأولاد دون البنات

     الوقف الأهلي أو الذري من أعمال البر والصلة والقربى، وقد أوقف قسماً من الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - أوقافاً على ذراريهم وقرابتهم، كما فعل عمر وأبو طلحة والزبير وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم- ومقصدهم التقرب إلى الله -تعالى-، وحفظ كرامة من يعولون، وعلى ذلك سار سلفنا الصالح، إلا أن هذا السلوك قد تغير مع مرور الأيام، فعمد بعضهم في وقف الأوقاف على ذريته، واشتراط منافعها على أولاده من الذكور دون بناته الإناث، وفي ذلك خروج ومخالفة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم».

آخر عصر الصحابة

     وقد ظهر في آخر عصر الصحابة اتخاذ الوقف طريقا لحرمان بعض البنات من نصيبهن، واستنكرت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- ذلك، فكانت تقول: «ما وجدت للناس مثلا اليوم في صدقاتهم إلا كما قال الله -عز وجل-: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: 139)، والله إنه ليتصدق الرجل الصدقة العظيمة على ابنته فترى غضارة -أي: (لين العيش وسعته)- صدقته عليها وترى ابنته الأخرى، وإنه لتُعرف عليها الخصاصة لما حرمها من صدقته».

وللخليفة عمر بن عبد العزيز الأموي قول قبل مماته: بأنه كان عازما على أن يرد صدقات الناس التي أخرجوا منها البنات، ولكن المنية عاجلته قبل أن ينفذ ذلك، وقال الإمام مالك في رواية عنه: «إنه من عمل الجاهلية»؛ لما في ذلك من التحايل على حرمان المرأة من الميراث.

الوقف لبعض الأولاد دون غيرهم

     وفي ذلك خروج الوقف الأهلي (الذري) عن أهدافه، وتلك الشروط التي يمليها الواقف في وثيقة وقفه فيها أضرار لبعض الورثة، وزرع الفرقة بينهم، والبغضاء في نفوسهم، وقد امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشهادة على تخصيص بعض الأولاد بالعطية من غير سبب يبيح، وسماه جورا، وذلك فيما رواه مسلم، عن محمد بن النعمان بن بشير يحدثانه عن النعمان بن بشير أنه قال إن أباه أتى به رسول الله، فقال: «إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال لا؛ فقال رسول الله: فأرجعه»، ومعنى (نحلت ابني غلاما) أي أعطيته غلاما.

التسوية بين الأولاد

     قال ابن قدامة -رحمه الله-: «يجب على الإنسان التسوية بين أولاده في العطية, إذا لم يختص أحدهم بمعنى يبيح التفضيل , فإن خص بعضهم بعطيته , أو فاضل بينهم فيها أَثِمَ , ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين: إما رد ما فضل به بعضهم, وإما إتمام نصيب الآخر. قال طاوس: لا يجوز ذلك, ولا رغيف محترق. وبه قال ابن المبارك وروي معناه عن مجاهد, وعروة، فيجب على الوالد العدل بين أولاده ذكورهم وإناثهم بحسب الميراث، ولا يجوز له أن يخص بعضهم بشيء دون البقية إلا برضى المحرومين إذا كانوا مرشدين، ولم يكن رضاهم عن خوف من أبيهم، بل عن نفس طيبة ليس في ذلك تهديد ولا خوف من الوالد، وعدم التفضيل بينهم أحسن بكل حال، وأطيب للقلوب.

حصر الوقف في العقار فقط

     لا يشترط في الوقف أن يكون عقاراً ذا قيمة عالية، بل إن الله -تعالى- يسر أعمالاً كثيرة تجري بها الحسنات بعد الممات لخلقه المؤمنين، فيمكن للمسلم أن يوقف مصحفاً أو يُجري نهراً، أو يغرس نخلاً، أو يحفر بئراً، أو يحبس فرساً في سبيل الله، وغيرها من الأعمال التي يدوم أجرها ونفعها؛ فعن أنس ابن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سبع يجري للعبد أجرهُنَّ وهو في قبره بعد موته: من علّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورَّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته»، والحديث جمع سبعاً من الأعمال التي تُعد من الوقف الإسلامي، تجري فيها الحسنات لصاحبها إلى ما بعد الممات، وتتنوع تلك الأعمال لتوسيع دائرة الاختيار، وهذا من فضل الله -تعالى- على عباده ورحمته بهم أن فتح لهم أبواباً من الخير يدوم فيها الأجر والمثوبة.

شمول الوقف

     فالوقف الإسلامي من سماته الشمول: فهو إما خيري، أو ذري أوكلاهما. وكذلك من سماته التنوع: فإما أن يكون للحاجات المادية، كالمأكل والمشرب والملبس والعلاج، أو لتوفير الحاجات المعنوية، كالتعليم والتطوير، أو للحاجات النفسية، كإدخال السرور في النفوس، وتوفير الحياة التي تحفظ للإنسان كرامته؛ فالوقف ليس محصوراً في الأراضي والدور، بل يتعدى ذلك إلى كل ما جاز الانتفاع به وصح وقفه، وإن قل ثمنه، فلا يشترط للوقف مبالغ كبيرة.

التهاون في رد المعتدين على الوقف

     يتراخى بعض الواقفين في المدافعة عن الوقف؛ فالوقف المغصوب إن كان موجوداً وباقياً فيه يد غاصبة وجب رده، بلا خلاف بين العلماء؛ لعموم وجوب رد عين الوقف المغصوبة، وجاء في الفتاوى الهندية: ولو غصبها - أي الأراضي الموقوفة - من الواقف، فإن أبى وثبت غصبه عند القاضي حبسه حتى الرد، وما عمت به البلوى طمع الناس في أموال الأوقاف؛ ولهذا شدد الفقهاء في إجبار المعتدي على الوقف أن يعيده كما كان وإن لم يكن ذلك تؤخذ منه القيمة ليُشترى بها وقف مكانه؛ ولهذا على المعتدي الضمان بالقيمة، قال ابن فرحون -رحمه الله-: «ومن كسر خشبا من خشب المسجد فعليه أن يرد البنيان والخشب كما كان، ولا تؤخذ منه القيمة؛ خوفا من أن تؤخذ القيمة فلا يرد على حاله، فيؤدي ذلك إلى تغيير هيئة الخشب».

الوقف لأمور بدعية مخالفة للشريعة

     الوقف أحد التشريعات التي تستهدف تحقيق الصلاح للإنسان ومن حوله، والصلاح لا يتحقق إلا بجلب المصالح ودرء المفاسد لهذا الإنسان؛ فإن الوقف يدخل ضمن المصالح التي تندرج في مقاصد الشريعة، والشريعة الإسلامية أعطت الحق للواقف بأن يشترط ما يشاء في وقفه شريطة ألا تتعارض شروطه مع مقاصد الشريعة، ومن مقاصد الشريعة حفظ الدين كما شرع.

منفعة الموقوف مباحة

     ومن الشروط التي نص عليها العلماء: أن تكون منفعة الموقوف مباحة، لا حُرمة فيها، وعليه فلا يصحّ وقف ما كانت منافعه محرّمة كآلات اللهو، وما أشبهها؛ لأن الوقف قُربة والمعصية تنافيه، فإن وقف على معصية من المعاصي فيكون ذلك إعانة على فعل المعاصي، وتثبيتاً لوجودها،فلا يصحّ وقف يكون ريعه لمعابد الكفّار، كالكنائس والبيعّ، ولا على خدمتها، وفرشها وقناديلها، ولا على تأسيسها أو ترميمها، وغير ذلك مما يتعلق بها، ومثل هذا وقف السلاح على أصحاب الفتن وقّطاع الطرق، فإن ذلك لا يجوز أيضا؛ لأن فيه الإعانة على المعاصي، كما سبق أن ذكرنا، وكذلك الأوقاف التي توقف على القبور لرفع سمكها، أو تزيينها، أو فعل ما يجلب على زائرها فتنة، وكذلك أوقاف خصصت للموالد وجلسات الذكر البدعية, وغيرها من المخالفات.

 

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك