رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 8 يوليو، 2020 0 تعليق

أخطاء الواقفين

 

شُرع الوقف لأهداف سامية، ومقاصد نبيلة، وامتاز بتنظيم محكم دقيق، وقد أولى فقهاء الأمة ومحدثوهم العمل الوقفي والخيري اهتماماً واضحاً، فبوبوا له الأبواب وقعدوا له القواعد، وبحثوا في مسائله ومستجداته، فأصلوه تأصيلاً شرعياً، وحددوا له الشروط والضوابط والمقاصد والغايات.

     إلا أن ذلك لم يمنع بعض الواقفين من الانحراف به عن نهج الشريعة، وقصد الشارع من إنشائه، وليس في ذلك عيب في الوقف ونظامه وأحكامه، فإن جميع الأحكام قد شرعت لتحقيق مصالح الناس وسد حاجاتهم، إلا أن التطبيق العملي لهذه الأحكام قد أخرج بعضها عن الأهداف التي شرعت لأجلها، والمقاصد التي جاءت لتحقيقها، وذلك نتيجة لبعد الناس عن تعاليم الإسلام الحقة، وجهلهم بمعرفة الحكمة من تشريع هذه الأحكام.

الأخطاء في تطبيق الوقف

      والأخطاء في تطبيق الوقف، قد يقع فيها الواقف - غالباً عن غير قصد منه -، وأحيانا تقع تلك الأخطاء مع حرص الواقف في استمرار وقفه، وتحقيق منافعه للموقوف، إلا أن الحرص وحده لا يكفي إن لم يقترن معه الوعي التام، والتوجيه المبني على أسس علمية وشرعية وقانونية، ولا شك أن تسليط الضوء وكشف غير الصواب الذي يمارسه بعض الواقفين باب عظيم من أبواب إحياء سنة الوقف ونشر ثقافته، ونجاح مؤسساته واستمرار نمائه وعطائه.

ولذلك جاء هذا الجمع لبيان تلك الأخطاء، من أقوال وأفعال وأحداث لا تصح، وتضر بالوقف ومقاصده التي شرع من أجل تحقيقها، وأردفتها بالتوجيه للصواب في الوقف، وقد وسمتها بعنوان: (أخطاء الواقفين) لعله يكون فيه نفع لحفظ الأوقاف وتفعيل دورها على مستوى الشعوب والدول والأمة بأكملها.

1. الوقف رياء وسمعة

      شرع الوقف رحمة من الله -تعالى- بعباده، واستثماراً للمال في دنياهم لآخرتهم؛ فالوقف عمل يقدمه المسلم في حياته، ويستمر معه أجره إلى يوم الدين، لا تُطوى معه صحائف الأعمال بانتهاء آخر صفحات الحياة، بل تزداد فيها الحسنات أضعافاً مضاعفة، وهو من علامات التوفيق للعبد، أن يفتح على يديه من الخير ما يوفر للناس مشربهم ومطعمهم، في أماكن هم بأمس الحاجة فيها للماء، وقد تعددت مجالات سقي الماء، وتيسَّرت كثير من الأسباب المعينة على توفيره. فالموفق: من وفق لهذا النهر العظيم من الحسنات الجارية، والمحروم: من حرم هذا الخير الجزيل.

بطلان الأجر والمثوبة

     والواقف إذا أوقف وقصد بوقفه السمعة والرياء فإن ذلك يبطل الأجر والمثوبة، قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (البقرة: 264)، فالذي يوقف رئاء الناس قصد بحبسه غير وجه الله -تعالى-؛ لأن الإنسان إذا أنفق متبجحا بفعله، ولم يسلك طريقة التواضع والانقطاع إلى الله، والاعتراف بأن ذلك من فضله وتوفيقه وإحسانه، فكان كالمانِّ على الله -تعالى.

قصد القربة إلى الله -تعالى

     فقصد القربة إلى الله -تعالى-، ومساعدة الآخرين وتحقيق حاجاتهم، باب للأجر والمثوبة، والذي يقصد بعمله الرياء والسمعة، فإن ذلك يضيع الأجر والمثوبة، إن لازم عمله مراءاة الناس مِن الأصل. وعلى الواقف أن يجعل عمله في وقفه خالصاً لله وحده. ولكن ليس مِن الرياء أن يُسرَّ الواقف بوقفه؛ لأن ذلك دليل إيمانه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَن سرَّته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن».

2. المنّ في الوقف وأذى الموقوف عليهم

والمن من الواقف بأن يرى نفسه محسنا، وأن يتعمد إظهار وقفه والتحدث به، وطلب المكافأة من الموقوف لهم، بالشكر والخدمة والتعظيم والمتابعة في الأمور، أما الأذى فهو الاستخفاف بالموقوف لهم وإسماعهم ما لا يليق من القول.

ثناء الله على المنفقين

     وقد أثنى الله -تعالى- في كتابه الكريم على المنفقين المخلصين، وذم المنفقين المانِّين والمرائين، فقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا قَوْلٌ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} (البقرة:262-263-264)، فمن أتبع نفقته مناً أو أذًى بطل أجره، كما هو صريح قوله -تعالى-: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} (البقرة: 264). روي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن المراد بالمن: المن على الله -تعالى-، والأذى للفقير.

كبيرة من كبائر الذنوب

     والمنّ كبيرة من كبائر الذنوب، جاء في الحديث النهي عن المن بالصدقة، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب». قال الضحاك: «ألا ينفق الرجل ماله خير من أن ينفقه ثم يتبعه منا وأذى». فعلى الواقف الإخلاص لله، وأن يكون وقفه صحيحاً موافقاً للشروط الشرعية، ولا يتبعه مناً ولا أذى حتى يتحقق له الثواب المستمر من الله -تعالى.

3. إهمال كتابة الوقف وتوثيقه

      توثيق الأوقاف من أعظم أسباب حفظها واستمرارها، ودفع أيدي المعتدين والطامعين فيها، وهو السبيل الذي يحقق مقاصد الواقفين في بقاء أوقافهم مع تعاقب السنين، والحفاظ عليها من الضياع والاندثار، والتقيد بمصارفها كما نص عليها الواقف، وضبطها من التغيير والأهواء، والحكمة من مشروعية التوثيق للوقف واضحة جلية، قال الشيخ العلامة السعدي رحمه الله: «فكم في الوثاق من حفظ حقوق، وانقطاع منازعات»، كما أن في إثبات الأوقاف وضبط إجراءاتها حفظاً لها من الاندراس والنسيان، أو الاعتداء عليها بالظلم والعدوان، وضبط الحقوق المتعلقة بها، وهو مقصد معتد به في الشرع.

      وإثبات الوقف بالكتابة -أيضاً-؛ لأن الكتابة أبقى من الشهادة؛ لذهاب أعيان المستشهد بهم، ووقف عمر بن الخطاب ثبت - بداية - بالإشهاد في عهد رسول الله، وكتابة الأحاديث النبوية الشريفة الخاصة به وتدوينها، ومع ذلك كتب عمر -رضي الله عنه- وثيقته وأشهد عليها؛ لأن في توثيق الوقف صيانة للحقوق، وقطعاً للمنازعة، وديمومة للوقف.

4. ترك التفصيل اللازم في وثيقة الوقف

من المستحب تفصيل الواقف وقفه في وثيقة؛ لحفظه واستمراره، وإزالة اللبس في أعيانه وحدوده وشروطه ومصارفه، ومن يتولاه في النظارة.

وقد اتفق العلماء على أن شروط الواقف -في الجملة- مصانة في الشريعة، وأن العمل بها واجب»، وعبَّر ابن القيم - رحمه الله - عن هذا المعنى بقوله: «الواقف لم يُـخرج ماله إلا على وجه معين؛ فلزم اتّباع ما عينه في الوقف من ذلك الوجه.

شرط الواقف كنص الشارع

وأهل العلم رفعوها إلى منـزلة النصوص الشرعية؛ من حيث لزومها، ووجوب العمل بها، فقالوا: «إن شرط الواقف كنص الشارع»، ولكن هذه الشروط لا تكون بهذه المنـزلة إلا إذا كانت محققة لمصلحة شرعية، أو موافقة للمقاصد العامة للشريعة، وهي المتمثلة في: حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال.

أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بقوله: «من قال من الفقهاء: إن شروط الواقف نصوص كألفاظ الشارع، فمراده: أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف؛ لا في وجوب العمل بها، والشروط إن وافقت كتاب الله كانت صحيحة، وإن خالفت كتاب الله كانت باطلة»

5. ترك الإشهاد على الوقف

     وذلك يكون بداية من الواقف، ظناً منه أن ذلك أكثر أجراً، وهذا قد يدفع بعض الورثة إلى كتمان الوقف الذي أوقفه مورثهم، ويتلفون عمداً أي ورقة كتبها المورث؛ ليتصرفوا فيه بيعاً ونفعاً. فلا مرجعية في ذلك بعد أن أتلفت وثائق الوقف، ومن الأخطاء كتم الوقف وإخفاؤه، فالأصل في الوقف أن يُشاع بين الناس، ومما عُرف في العهود الإسلامية أن الواقفين كانوا يتعمدون الإعلام عن أوقافهم حتى يعرف الناس - على اختلاف - طبقاتهم بالوقف وشروطه. ومن الطرائق التي نقلتها كتب التاريخ في القاهرة، زفُّ كتَّاب الوقف بالأناشيد والأشعار في شوارع القاهرة، فضلا عن الحفلات التي تقام - عادة - عند افتتاح المنشآت الموقوفة مثل المدرسة وغيرها.

وفي العهود الإسلامية لجأ بعض الواقفين إلى الإكثار من الشهود على كتاب الوقف، ومما ذكره المقريزي - عند كلامه عن الدار البيسرية التي أنشاها الأمير بدر الدين الشمسي الصالحي النجمي - أنه أشهد على وقفه اثنين وتسعين عدلا.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك