أحكــــــام الصيــــــــــام وآدابــــــــه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن الله تعالى قد امتنَّ على عباده بمواسم الخيرات، التي فيها تُضاعف الحسنات، وتُمحى السيئات، وتُرفع الدرجات، وتتوجه فيها نفوسُ المؤمنين إلى مولاها رجاء تزكيتها، ومن أعظم العبادات التي افترضها الله على عباده لتحقيق توحيده وطاعته: فريضة الصيام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة: 183)؛ ولأهمية هذا الركن العظيم من الإسلام كان لا بد من تعلم الأحكام المتعلقة بشهر الصيام، ليعبد المسلم ربه على بصيرة، ويعرف ما هو واجب فيفعله، وما هو حرام فيجتنبه؛ ولذا كان هذا الملف الخاص للفرقان، نسأل الله أن يعم به النفع، ويكتب به الأجر.
تعريف الصوم:
الصوم في اللغة: الإمساك. يقال: صامت الخيل: إذا أمسكت عن السير، وصامت الريح: إذا أمسكت عن الهبوب. ومنه قوله تعالى عن مريم عليها السلام: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا } (مريم:26) أي: إمساكاً عن الكلام، بدليل قولها في ختام الآية السابقة: {فلن أكلم اليوم إنسيا}.
والصوم في الشرع: هو التعبد لله سبحانه وتعالى بالإمساك عن الأكل والشرب والجماع وسائر المفطرات - مع اقتران النية به - من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس؛ وتمامه وكماله باجتناب المحظورات، وعدم الوقوع في المحرمات، لقوله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» (أخرجه البخاري في صحيحه). انظر: (تفسير القرطبي 2/269).
حكم صوم شهر رمضان: صوم رمضان ركن من أركان الإسلام، وفرض من فرائضه، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.
- أولاً: الكتاب: قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة: 183) ومعنى كُتب: فُرض.
- ثانياً: السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم : «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ – وفيه -: وَصَوْمِ رَمَضَانَ...الحديث» (متفق عليه). وقول الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرني بما فرض الله عليَّ من الصيام؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «شهرَ رمضان، إلا أن تطوع شيئاً... الحديث» (متفق عليه).
- ثالثاً: الإجماع: قال القرطبي في تفسيره (2/268): لا خلاف فيه. وقال النووي في شرح المهذب (6/249): كون رمضان ركناً وفرضاً مجمع عليه، ودلائل الكتاب والسنة والإجماع متظاهرة عليه.
متى كان فرض رمضان؟ وكم سنة صام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال النووي في شرح المهذب (6/248): صام رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان تسع سنين؛ لأنه فرض في شعبان في السنة الثانية من الهجرة، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة.
فضل الصوم:
فضائل الصوم كثيرة متنوعة، فعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ» (متفق عليه).
وعنه: عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (متفق عليه). وعنه أيضاً: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ. فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَجْهَلْ. وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ - مَرَّتَيْنِ - وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. يَتْرُكُ طَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ، وَشَهْوَتَهُ، مِنْ أَجْلِي. الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا». (متفق عليه). وفي رواية: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ» (متفق عليه).
وعَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ» (متفق عليه).
بعض الفوائد والحِكَم من شرعية الصيام:
حصول التقوى: فإن الله لما أمر بالصيام قرنه بالتقوى، كما في قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}(البقرة:183)، فجعل التقوى مترتبةً على الصيام.
حفظ الجوارح عن المعاصي:
ومن حِكَمِ الصيام وفوائده أن الإنسان يحفظ وجدانه، ويحفظ جوارحه عن المعاصي، فلا يقربها، حتى يتم بذلك صيامه، قال صلى الله عليه وسلم : «الصِّيَامُ جُنَّةٌ. فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَجْهَلْ. وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ – مَرَّتَيْنِ -... الحديث» (متفق عليه).
حمية للبدن: ومن حكمة الله تعالى في هذا الصيام – أيضاً- أن فيه حمية للبدن عن الفضلات، ولا شك أن الحمية من أقوى أنواع الأدوية والعلاجات، كما قال تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(البقرة:184). فالصيام يُكسب البدن المناعة والقوة، كما يكسبه الصبر واحتمال الجوع والعطش، وفي ذلك منفعة عظيمة على احتمال الشدائد إذا ما تعرض لها.
تذكر الفقراء والذين يموتون جوعاً: ومن الحكم الجليلة التي شرع لها الصيام أن يشعر الإنسان بالجوع فترة الصيام، فيتذكَّر أهل الجوع دائماً من المساكين والفقراء، ليرأف بهم، ويرحمهم، ويتصدق عليهم، فيتحقق بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (متفق عليه). وغيرها من النصوص كثير.
تخفيف حدة الشهوة: وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصوم للشباب وجَاءً أي: مخففاً من حدة الشهوة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ: مَن اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ». (متفق عليه)؛ ذلك أن الصوم يكسر حدة شهوة النكاح.
وجوب صوم رمضان برؤية هلاله، أو إكمال شعبان ثلاثين:
عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم : «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ» (متفق عليه). ويثبت صيام شهر رمضان برؤية واحدٍ عدلٍ، لحديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلاَلَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ» (أخرجه أبو داوود وغيره بسندٍ حسنٍ).
على من يجب؟
أجمع أهل العلم على أنه يجب الصوم على المسلم، البالغ، العاقل، الصحيح، المقيم، ويجب أن تكون المرأة طاهرة من الحيض والنفاس.
أما عدم وجوبه على غير المسلم، فلقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ... الآية} (البقرة: 183). ولو صام الكافر فلن يقبل الله منه حتى يأتي بالشهادتين أولاً.
وأما عدم وجوبه على غير العاقل البالغ، فلقوله صلى الله عليه وسلم : «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ» (أخرجه الإمام أحمد، وأبو داوود، والترمذي، وغيرهم، وهو حديث صحيح لطرقه وشواهده).
لكن ينبغي على ولي أمر الصبي أن يأمره بالصيام - إذا أطاقه - تمريناً له وتعويداً، لحديث الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ: «مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ». قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُم اللُّعْبَةَ مِن الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ. (متفق عليه).
وأما عدم وجوبه على غير الصحيح المقيم، فلقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ} (البقرة:184). فإن صام المريض والمسافر أجزأهما؛ لأن إباحة الفطر لهما رخصة، فإن أخذا بالعزيمة فهو خير لهما.
وأيهما أفضل؟ الفطر أم الصوم؟
إن لم يجد المريض والمسافر مشقة بالصوم فالصوم أفضل، وإن وجدا مشقة فالفطر أفضل، لحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ، فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فَلاَ يَجِدُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلاَ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفْطَرَ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ». (أخرجه مسلم).
وأما عدم وجوبه على الحائض والنفساء، فلقول النبي صلى الله عليه وسلم : «أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟” قُلْنَ: بَلَى. قَالَ: «فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا» (متفق عليه). فلا يجوز للحائض أو النفساء الصوم، ولا يصح منهما، ويجب عليهما القضاء، لقول عائشة رضي الله عنها: «كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلاَ نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ». (أخرجه مسلم).
ما يجب على الشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمريض الذي لا يُرجى برؤه:
من عجز عن الصيام لكبر أو نحوه فإنه يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكيناً – إذا كان ذا سعة – لما رواه البخاري في صحيحه من طريق عَطَاء، أنه سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (البقرة:184) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ، لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا، فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.
وذهب فريق آخر إلى عدم وجوب شيء عليهم؛ لعدم الدليل الملزم لهم، ولأن الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185، والأولى – خروجاً من الخلاف – الإطعام، والله أعلم.
أركان الصوم:
النية: لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } (البينة:5). ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات، وإَنمَا لكل امْرِئٍ مَا نَوَى» (متفق عليه). والنية هي العزم على فعل الشيء تقرباً إلى الله تعالى، ومحلها القلب. واشترط الجمهور أن تكون من الليل قبل طلوع الفجر؛ لحديث حفصة رضي الله عنها: «مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلا صِيَامَ لَهُ» (أخرجه الإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، وغيرهم. والراجح وقفه كما قال الإمام أحمد، والبخاري، والنسائي، والترمذي، والدارقطني، وغيرهم).
الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس. لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (البقرة:187).
مبطلات الصوم:
الأكل والشرب عمداً، فإن أكل أو شرب ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ نَسِي وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» (متفق عليه).
الجماع عمداً، وتجب به الكفارة والقضاء، أما الكفارة فلحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ. قَالَ: “مَا لَكَ؟”. قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟” قَالَ: لَا. قَالَ: “فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» قَالَ: لَا. فَقَالَ: “فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟” قَالَ: لَا. قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِيَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ، وَالْعَرَقُ: الْمِكْتَلُ. قَالَ: “أَيْنَ السَّائِلُ؟” فَقَالَ: أَنَا. قَالَ: «خُذْ هَذا فَتَصَدَّقْ بِهِ” فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي. فَضَحِكَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» (متفق عليه). وأما القضاء، فلأنه أفسد يوماً من رمضان، فعليه قضاؤه، وزاد بعضهم في هذه الحديث زيادة: «وصم يوماً مكانه» (أخرجها أبو داوود وغيره، وتنازع فيها أهل العلم).
واختلف أهل العلم في المرأة، فقال بعضهم: لا كفارة عليها، والجمهور على وجوب الكفارة عليها أيضاً على اختلاف بينهم في التفريق بين الحرة والأمة، وبين المطاوعة والمكرهة، والراجح - والله أعلم -: وجوب الكفارة عليها إذا كانت مطاوعة، وعدمها إذا كانت مكرهة. وهل يتحملها الرجل عنها أم هي من يتحمل تلك الكفارة؟ خلاف لأهل العلم. وهل تسقط الكفارة بالإعسار؟ خلاف أيضاً لأهل العلم، والجمهور على أنها في ذمته حتى يستطيع.
أما من جامع في نهار رمضان وهو صائم ناسياً، فإن جمهور العلماء على أن حكمه حكم من أكل أو شرب ناسياً.
وإذا تكرر منه الجماع في يوم واحد، لزمته كفارة واحدة. وإن كان في يومين أو أكثر، لزمه لكل يوم كفارة. وأما من جامع في نهار رمضان وكان مفطراً لعذر: كمرض، أو سفر، وكانت المرأة كذلك، أو كانت حائضاً فطهرت، فجائز، والله أعلم. ولو أن رجلاً أراد مجامعة امرأته فأفطر بطعام أو شراب أولاً ثم جامع حتى لا تجب عليه الكفارة، فإن الكفارة واجبة عليه لخبث ما نوى، وسوء ما فعل. وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى25/262) قول الجمهور، وهو وجوب الكفارة.
إنزال المني عمداً من غير جماع: لقول الله تعالى في الحديث القدسي: «يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي» (متفق عليه) ومن أنزل المني متعمداً فقد قضى شهوته، ولم يتركها لله تعالى.
الحيض والنفاس، ولو قبل الغروب بلحظة يسيرة: لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟» (متفق عليه). أما المستحاضة فلا يمنعها دمها من الصيام.
القيء عمداً: لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ» (أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وإسناده ظاهره الصحة، لكنه معلول، أعله الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، والبيهقي، وغيرهم). وقد أجمع أهل العلم على معنى هذا الحديث، أن من غلبه القيء فلا قضاء عليه ولا كفارة، ومن استقاء عمداً قضى.
ما يباح للصائم:
القبلة والمباشرة لمن قدر على ضبط نفسه: لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ؛ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ». (متفق عليه).
المضمضة والاستنشاق من غير مبالغة، حتى لا ينزل شيء من الماء إلى الجوف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الاِسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» (أخرجه الأربعة، وصححه الألباني).
الحجامة، ما لم يضعف: لما رواه البخاري في صحيحه من طريق ثابت البناني قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ.
كذلك يباح صب الماء على رأسه للتبرد، والسواك، والطيب، والادهان، والكحل، والقطرة، وتذوق الطعام، والحقن بجميع أنواعها، عدا الحقن المغذية لأنها تحل محل الطعام والشراب. وكذلك يباح له التحاميل، وبخاخ الربو، وتحليل الدم، والاحتلام، والمكياج، ومرطب الشفاه، وقلع الضرس، ودخول الماء في الفرج أثناء الاستنجاء، ومعجون الأسنان، وبلع الريق، والنخامة، وغبار الطريق ... إلخ، كل هذه الأمور لا تفطر الصائم، إذا لم يدخل منها شيء إلى الجوف. والله أعلم
آداب الصيام ومستحباته:
الجود ومدارسة القرآن: عن ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَام - يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَام - كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِن الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. [متفق عليه].
الكف عن اللغو والرفث والجهل والصياح ومما يتنافى مع الصوم: لقوله صلى الله عليه وسلم : «إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» (متفق عليه). ولقوله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ». (أخرجه البخاري).
تعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس: لقوله[: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» (متفق عليه). فإن أكل أو شرب ظاناً غروب الشمس ثم طلعت الشمس، وجب عليه الإمساك والقضاء عند جمهور العلماء، لأن الأصل هو بقاء النهار، فلا يزول إلا بيقين.
أن يفطر على رطبات، فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد فعلى ماء، أو مما تيسر له: لحديث أنس رضي الله عنه: «كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّي، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاء»ٍ. (أخرجه أبو داوود وغيره، وهو حديث حسن).
أن يدعو عند فطره: لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: «ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» (أخرجه أبو داوود وغيره، وحسنه الألباني).
السحور: لقوله صلى الله عليه وسلم : «تَسَحَّرُوا، فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» (متفق عليه). ويتحقق السحور ولو بالقليل من الطعام أو الشراب. ويستحب تأخيره، لحديث أَنَسٍ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ: أَنَّهُمْ تَسَحَّرُوا مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ. قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «قَدْرُ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ» - يَعْنِي آيَةً - (متفق عليه)، وله أن يأكل ويشرب حتى يتحقق طلوع الفجر، لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (البقرة: 187)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما شككت حتى لا تشك. (أخرجه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والبيهقي، وغيرهم بسند صحيح). فإن تحقق طلوع الفجر وهو يأكل أو يشرب أو يجامع فيجب عليه أن يتوقف في الحال، لأن الله جعل أمد الأكل والشرب إلى تحقق الفجر، فلا يجوز له أن يتعداه، فإن فعل متعمداً وجب عليه القضاء إن كان فطره دون الجماع، والكفارة في الجماع على ما تقدم بيانه.
لاتوجد تعليقات