أحكام شرعية متـعــلـقـــة بالأمـــراض المعـــــدية
يشهد العالم هذه الأيام حالة من الذعر والخوف؛ بسبب انتشار مرض معد أطلق عليه اسم (كوفيد ـ 19) الذي يسببه فيروس (كورونا)، ينتشر بسرعة كبيرة، وأحدث إرباكا عالميًا، وأثر على الحياة العامة في الكثير من التجمعات البشرية عبر العالم، ورأيت أن من المفيد نشر مقال يتضمن بعض المسائل والأحكام الشرعية المتعلقة بالأمراض المعدية.
العوامل الممرضة
والعوامل الممرضة التي تسبب العدوى هي الجراثيم (Bacteria)، والفيروسات (Viruses)، والطفيليات (Parasites)، ويوجد من كل منها آلاف الأنواع (Serotype) التي تسبب أنواعا عديدة جدا من الأمراض السارية والمعدية، وتصل هذه العوامل إلى الإنسان الصحيح من مريض (Patient) ظهرت عليه أعراض المرض، أو من حامل لجرثومة المرض (Carrier ) لم تظهر عليه أعراض المرض، أو من حيوان، أو من أدوات ملوثة بجرثومة المرض، أو من الهواء، أو من الماء (الموسوعة الطبية الفقهية لدكتور أحمد محمد كنعان).
الأمراض المعدية قسمان
- القسم الأول: الأمراض المعدية التي لا ينقلها غير المريض، كالجذام فهو مرض معد، لكن الصحيح من الناس لا ينقل هذا المرض.
- القسم الثاني: الأمراض المعدية التي ينقلها المريض وغير المريض؛ فيمكن أن ينقلها صحيح حامل للمرض، كالطاعون وفقدان المناعة المكتسبة، وفي هذا القسم يدخل مرض (كورونا) بحسب ما ذكره المختصون.
العدوى في الشرع بين النفي والإثبات
لقد وردت أحاديث كثيرة، بعضها يثبت العدوى وبعضها ينفيها، ولما كان ظاهر هذه الأحاديث التعارض أشكل على كثير من الناس فهمها، أما العلماء فلهم مسالك مختلفة في التعامل مع هذه الأحاديث؛ فمنهم من جعل بعضها ناسخا وبعضها منسوخا، ومنهم من ضعف بعضها ولم يجعله يقوى على معارضة الصحيح فطرحه، وبعضهم جمع بين هذه الأحاديث بوجوه توافق أصول الشريعة وقواعدها، وقد جاء في السنة النبوية أحاديث عديدة تثبت حصول العدوى ومن ذلك:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «فِرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد» (رواه البخاري)، وفي لفظ «إذا رأيت المجذوم ففر منه كما تفر من الأسد» (ابن حجر في فتح الباري)، وسكت عنه فهو لا ينزل عن رتبة الحسن، وعن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: كان في وفْد ثقيف رجل مَجذوم؛ فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا قد بايعناك فارجع» (رواه مسلم وابن ماجة)، وقال صلى الله عليه وسلم : «إن هذا الطاعون رجْزٌ سُلِّط على من كان قبلكم - أو على بني إسرائيل -؛ فإذا كان بأرض فلا تَخْرجوا منها فرارًا منه، وإذا كان بأرض فلا تدخلوها» ( رواه البخاري ومسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يُورد مُمْرِض على مُصِحٍّ» (رواه البخاري ومسلم)، وفي لفظ البخاري: «لا توردوا الممْرِض على المصح»، قال صلى الله عليه وسلم : «اتَّقوا المجذوم كما يُتَّقى الأسد» (رواه البخاري في تاريخه الكبير، وصححه الالباني في صحيح الجامع)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تُدِيموا النَّظر إلى المجْذومين» (رواه أحمد، وابن ماجه، والبخاري في تاريخه، وصححه الألباني في صحيح الجامع)، وقال صلى الله عليه وسلم : «لا تحدُّوا النظر إليه»، «يعني: المجذوم» (رواه الطيالسي، والبيهقي، وصححه الألباني).
أحاديث وآثار ظاهرها نفي العدوى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا عدوى ولا طيرة» (رواه البخاري ومسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم : «لا عدوى ولا صَفَر ولا هامَة»؛ فقال أعرابي: يا رسول الله؛ فما بال الإبِل تكون في الرَّمل كأنَّها الظِّباء؛ فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلَّها؟ قال: «فمَن أعْدى الأوَّلَ؟» (رواه البخاري ومسلم)، وعن جابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مَجْذوم فوضَعها معه في القصعة، وقال: «كُلْ ثقةً بالله وتوكُّلاً عليه» رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر)، ورَوى ابن أبي شيبة في (مصنَّفه) أنَّ «سلْمان رضي الله عنه كان يعمل بيديه، ثم يَشتري طعامًا، ثم يبعث إلى المجذومين؛ فيأكلون معه» (صححه الالباني)، وعن أمِّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: قالت: «كان لي مولًى به هذا الدَّاء؛ فكان يأكل في صِحَافي، ويشرب في أقْداحي، وينام على فراشي» (رواه الطبري، وحسنه ابن حجر)، وعن عبد الله بن جعفر قال: «لقد رأيتُ عمر بن الخطاب يُؤتَى بالإناء فيه الماء؛ فيعطيه مُعَيْقِيبًا، وكان رجلاً قد أسرع فيه ذاك الداء فيشرب منه، ويناوله عُمَر؛ فيضع فمَه موضِعَ فمه، حتَّى يشرب منه؛ فعرفت أنَّما يصنع عمر ذلك فرارًا من أن يدْخلَه شيء من العدوى» (رواه ابن السعد في الطبقات، وقال شعيب الأرناؤوط سنده قوي).
الجمع بين الأحاديث المثبتة للعدوى والنافية لها
لقد سار كثير من المحققين إلى الجمع بين الأحاديث المثبتة والنافية في ظاهرها للعدوى وأعملوا الأدلة المثبتة والنافية لكون إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما، وأما النسخ فلا قرينة تدل عليه، ولا يعرف تأريخ يكشف المتقدم من المتأخر من هذه الأدلة؛ لهذا رده العلماء، يقول النووي -رحمه الله-في تخطئة من قال بالنسخ: «وهذا غلط؛ لوجهين: أحدهما أنَّ النسخ يُشترَط فيه تعذُّرُ الجمْع بين الحديثين، ولم يتعذَّر، بل قد جمَعنا بينهما، والثاني أنَّه يُشترط فيه معرفة التاريخ، وتأخُّرُ الناسخ، وليس ذلك موجودًا هنا»، وقال آخَرون: حديث: «لا عدوى» على ظاهره، وأمَّا النهي عن إيراد الممْرِض على المصحِّ فليس للعدْوى، بل للتأذِّي بالرائحة الكريهة، وقُبْح صورته، وصورة المجذوم، والصواب ما سبق، والله أعلم»
وقال الإمام ابن القيِّم–رحمه الله - رادًّا على دعْوى النسخ بقوله: «وهذا غير صحيح...، المنهي عنه نوع غير المأذون فيه»، وقال ابن حجر في الفتح: «وأما دعوى النسخ فمردودة؛ لأن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، ولاسيما مع إمكان الجمع».
إمكانية الجمع بين الأحاديث
وبعد ما نفى العلماء النسخ في هذه الأحاديث، وقرروا إمكانية الجمع بينها اختلفوا في كيفية الجمع بينها على وجوه متعددة، قال النووي -رحمه الله-: قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين، وهما صحيحان، قالوا: وطريق الجمع أنَّ حديث «لا عدوى»، المراد به نفْي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أنَّ المرض والعاهة تعْدِي بطبْعها، لا بفعل الله -تعالى- وأما حديث: «لا يورد ممرِض على مصحٍّ»؛ فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل الضَّرر عنده في العادة بفعل الله -تعالى- وقدَرِه؛ فنفَى في الحديث الأوَّل العدْوى بطبْعها، ولم يَنْف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله -تعالى- وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدَرِه؛ فهذا الذي ذكرناه من تصحيح الحديثين، والجمع بينهما هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء، ويتعيَّن المصير إليه».
وجوه كثيرة للجمع
لقد ذكر العلماء وجوها كثيرة للجمع بين هذه الأحاديث، ولعل أحسنها وأصوبها ما ذهب إليه البيهقي، وتبعه عليه ابن الصلاح، وابن القيم، وابن رجب، وابن مفلح، وغيرهم أن قوله: «لا عدوى»، أي على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله -تعالى-، وأن هذه الأمور تعدي بطبعها، وإلا فقد جعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من الأمراض سببا لحدوث ذلك؛ ولهذا قال: «فر من المجذوم كما تفر من الأسد»، وقال: «لا يورد ممرض على مصح» وقال في الطاعون: «من سمع به في أرض فلا يقدم عليه», وكل ذلك بتقدير الله -تعالى-، ومن القواعد التي ذكرها بعض العلماء في مثل هذا المقام: «أن الشرع إذا أثبت شيئا ثم نفاه؛ فالنفي منصب على ما هو قائم بالأذهان من الاعتقادات الباطلة».
حصول العدوى
ومما تقدم يعلم بأن حصول العدوى، لا يكون إلا -بإذن الله تعالى-؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالفرار من المجذوم، ثم أكل معه ليقرر هذه الحقيقة، وأما قوله: «لا عدوى ولا طيرة»؛ فيحمل على أنه لا شيء يعدي بطبعه، وفي ذلك نفي لما كان عليه أهل الجاهلية من اعتقاد، أن الأمراض تعدي بطبعها؛ فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم الفاسد بنفيه لحصول العدوى إلا بإذن الله.
حصول العدوى أمر ثابت
«ونحن نقول مما أصبحنا نعرفه اليوم من طبيعة الأمراض: إن حصول العدوى أمر ثابت لا ريب فيه؛ فقد أصبحنا نعرف اليوم آلاف الأمراض المعدية التي تصيب البشر بطرائق مختلفة، غير أن حصول العدوى يحتاج إلى شروط (conditions) معقدة، وكل مرض من الأمراض المعدية، يعدي بطريقة خاصة به؛ فمنها ما ينتقل عن طريق الطعام، والشراب، ومنها ما ينتقل عن طريق الدم بالحقن مثلا، ومنها ما ينتقل عن طريق الممارسات الجنسية، أضف إلى هذا أن لكل نوع من العوامل الممرضة جرعة نسميها: الجرعة المعدية (infecting dose)؛ فلا تحصل العدوى إلا بدخول عدد معين من تلك العوامل إلى جسم صحيح كما أن الاستعداد للعدوى (susceptibility) يختلف من شخص لآخر، ومن عرق بشري (race) لآخر، وللظروف الجوية وغيرها من الظروف، أثر في حصول العدوى، علما بأن العدوى نادرا ما تحصل من ملامسة واحدة، أو مخالطة (contact) عابرة، بل تحتاج في الغالب لمخالطة حميمة طويلة الأمد.
للعدوى شروط كثيرة
وهكذا نجد أن للعدوى شروطًا كثيرة معقدة لا تحصل من دونها؛ ولهذا لا تصيب العدوى كل الذين دخل العامل الممرض في أجسامهم، وعلى سبيل المثال فقد وجد أن فيروسات شلل الأطفال (poliovirus) إن أصابت مائة طفل؛ فإن طفلا واحدا فقط هو الذي يصاب بالشلل الفعلي، أما بقية الأطفال 99% فلا يصابون بالشلل، بل على العكس يكتسبون مناعة دائمة ضد الشلل (الموسوعة الطبية الفقهية ص 702).
لاتوجد تعليقات