رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: رضوان نافع 16 مارس، 2020 0 تعليق

أحكام شرعية متـعــلـقـــة بالأمـــراض المعـــــدية


ما زال الحديث مستمرًا عن المسائل والأحكام الشرعية المتعلقة بالأمراض المعدية؛ حيث ذكرنا أن العالم يشهد هذه الأيام حالة من الذعر والخوف؛ بسبب انتشار مرض معد أطلق عليه اسم (كوفيد ـ 19) الذي يسببه فيروس (كورونا)، ينتشر بسرعة كبيرة، وأحدث إرباكا عالميًا، وأثر على الحياة العامة للكثير من التجمعات البشرية عبر العالم، ورأيت أن من المفيد نشر مقال يتضمن بعض المسائل والأحكام الشرعية المتعلقة بالأمراض المعدية.

الخوف من نقل العدوى

     لقد جاءت الشريعة بحفظ النفوس وصيانتها عن الأذى والتهلكة، ويدخل في ذلك الأمراض والأوبئة؛ فهي من جملة ما يجب اتقاء أسبابه، أو التعرض لها من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى هذه السبيل بقوله صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم فرارك من الأسد»؛ ولما قدم وفد ثقيف لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم رجل مجذوم؛ فأمره صلى الله عليه وسلم بالبقاء في الرحل، وعدم الوفود عليه وقال: «بايعناك وأنت في الرحل»، وكذلك نهيه عن دخول أرض الطاعون وقوله: «لا يورد ممرض على مصح»، وقد تقدم أن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى» تحمل على أنه لا شيء يعدي بطبعه، وكذلك أكله مع المجذوم، إنما هو لبيان ذلك ولنفي ما كان يعتقده الناس في الجاهلية، من أن هذه الأشياء تعدي بطبعها.

سد الذرائع

     ونهيه صلى الله عليه وسلم عن القرب من المجذوم ومخالطته، فيه دلالة على أن هذا الأمر من أسباب الضرر، وهذا الضرر اختلف فيه العلماء؛ فمنهم من حمله على الضرر في الدين والعقيدة؛ فيكون ذلك من باب سد الذرائع، حتى لا يظن أن هذه الأمراض تعدي بطبعها إذا ما قدر الله عليه المرض، والمسلم عليه ألا يعرض نفسه لما يحتاج إلى مجاهدة، كما ذكر ذلك أبو العباس القرطبي في المفهم، والخطابي، وابن قتيبة، وابن الأثير، وغيرهم، وهناك من أهل العلم من حمله على الضرر الحسي، وأن هذا الأمر أجرى الله عادة أن يكون سببًا يفضي إلى انتقال العدوى وهو الصواب، ولا يشكل على هذا مخالطته صلى الله عليه وسلم لمصاب مرة من المرات؛ فإنما كان ذلك لبيان أن تأثير هذا السبب، منوط بمشيئة الله -سبحانه وتعالى-؛ فإن شاء -سبحانه- أبقاه على العادة؛ فأثر، وإن شاء سلبه قواه فلم يؤثر، أو خلق أسبابا غيره تدفعه علمه الناس أو لم يعلموه.

ربط الأسباب بالمسببات

     ومن حكمة الله أن ربط الأسباب بالمسببات، وأمرنا باتخاذ هذه الأسباب كما أمرنا بعدم الاعتماد عليها من دون الله، والناس في الأسباب طرفان ووسط؛ فإنكار الأسباب قدح في الحكمة والإعراض عنها نقص في الدين، كما أن الاعتماد عليها من دون الله يقدح في إيمان المسلم وعقيدته.

الضرر يزال

     ومخالطة المريض مظنة الضرر، والضرر يزال، ولاسيما إذا شهد الشرع والواقع على تحققه في شيء؛ فإن الأصل فيه المنع، كما قعده الفقهاء، وإن لم يصرح في النصوص بمنعه؛ فإذا نص على المنع وصرح به لزم الأخذ به قطعا؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بمجانبة من به مرض يسري، أو يعدي كالجذام، أو الطاعون، ويقاس عليه مما ثبت عليه بالحس، أو شهد به الأطباء أنه يعدي دفعا للضرر وحفظا للنفس عما يؤذيها ويهلكها، بل ناقش الفقهاء حق جماعة المسلمين في عزل المريض مرضا معديا عن الأصحاء، وذهب أكثرهم إلى جوازه، بل إلى وجوبه وسيأتي معنا التفصيل في هذا الأمر عند الحديث عن أثر المرض المعدي في حضور الجمعة والجماعات.

عزل المريض

     فعزل المريض والبعد عن مخالطته، إلا لضرورة قد أمر به الشرع، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : «فر من المجذوم كما تفر من الأسد»، وفي قوله: «لا يورد ممرض على مصح»، وقد قرر الفقهاء عزل المريض بالجذام، ويقاس عليه باقي الأمراض السارية والمعدية، وقد ذهب المالكية، والحنابلة، والشافعية، على منع المجذوم من مخالطة الأصحاء دفعا للضرر والأذى الذي يحصل بمخالطتهم، ولم أقف على قول للحنفية في المسألة، لكن أصولهم في الأخذ بقواعد الشريعة في الحفاظ على الكليات الخمس، ودفع الضرر تقتضي موافقتهم للجمهور.

مخالطة المريض

     وذهب بعض العلماء على أن الصحيح إذا أذن في ورود المريض عليه مع معرفته بحاله؛ فحينئذ لا يلحق المريض إثم ولا حرج، ويدخل في هذا ذهاب المرضى إلى الأطباء، والأصل في هذا حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم؛ فأدخلها معه في القصعة، وقال: «كلي ثقة بالله وتوكلا عليه»، وعليه يحمل ما ثبت عن أبي بكر، وعمر، وسلمان، وعائشة -رضي الله عنهم- في إذنهم لبعض المرضى للوفود عليهم والأكل معهم، وإلى هذا ذهب الحنابلة؛ فقالوا: لا يحل للمجذوم مخالطة الصحيح، إلا بإذنه للحديث المتقدم، كأنهم حملوا الحديث «لا عدوى ولا طيرة» على المعنى، لا يحل لأحد أن يعدي أحدا.

إذا لم يأذن الصحيح

     وأما إذا لم يأذن الصحيح، أو لم يعلم بحال المريض؛ فإنه لا يجوز لهذا المريض الوفود على الصحيح، أو مخالطته، والأصل في هذا حديث عمرو بن الشريد، عن أبيه قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم : «إنا قد بايعناك فارجع»، ولم يأذن له بالوفود عليه.

العزل الطبي

     ومن التدابير المعروفة اليوم في مواجهة الأوبئة والأمراض المعدية والسارية، ما يسمى بالعزل الطبي، والحجر الصحي، وما تقدم يعد مستندا شرعيا لها، ويلزم المريض شرعا الاستجابة والتقيد بهذه التدابير التي يتخذها المسؤولون عن الصحة العامة.

حضور الجمعة والجماعات

     أثر المرض المعدي في حضور الجمعة والجماعات والحج والعمرة: إن من قواعد الشريعة الحفاظ على النفس، ودفع الضرر وإزالته والتخفيف عن المريض؛ لذلك قال جماهير العلماء بسقوط الجماعة والجمعة عن المريض مرضا معديا، بل صرحوا أن لجماعة المسلمين وإمامهم منعه إذا أصر على حضور الجماعة والجمعة ومخالطة الناس في المسجد؛ لما يترتب على ذلك من الضرر لغيره من الأصحاء، وتعريضهم للتأذي بأعراض المرض أو سريانه إليهم وإعدائه لهم، كما أن في ذلك مخالفة للإرشاد النبوي في النهي عن مخالطة المريض للأصحاء، واستدلوا لذلك بما رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وفر من المجذوم كما تفر من الأسد»، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار».

أذية كبيرة للآخرين

     وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يقربن مسجدنا»؛ فمنع آكل الثوم من الحضور؛ لأنه يؤذي غيره، وفي حضور المصاب بمرض معدٍ أذية كبيرة للآخرين كما هو معروف؛ ولذلك جاء في التاج والإكليل في شرح عبارة خليل لما قال: وعذر تركه-الجمعة-والجماعة شدة وحل في مطر أو جذام، قال: قال ابن حبيب: على الجذماء الجمعة ولا يمنعون من دخول المسجد فيها خاصة، وللسلطان منعهم من غيرها من الصلوات وقاله مطرف، وقال سحنون: لا جمعة عليهم، وإن كثروا ولهم أن يجمعوا ظهراً بغير أذان في موضعهم، ولا يصلون الجمعة مع الناس، قال ابن يونس: لأن في حضورهم الجمعة إضراراً بالناس، وأوجب -عليه السلام- غسل الجمعة على الناس؛ لأنهم كانوا يأتون إليها من أعمالهم؛ فيؤذي بعضهم بعضا بنتن أعراقهم؛ فالجذام أشد، ومنعهم يوم الجمعة أولى لاجتماع الناس، وكما جاز أن يفرق بينه وبين زوجته إذا تجذم كان أحرى أن يفرق بينه وبين الناس في الجمعة.

الجذام والبرص

     ونقل شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في أسنى المطالب عن الأسنوي أنه: توقف في الجذام والبرص، قال الزركشي: والمتجه أنه يعذر بهما؛ لأن التأذي بهما أشد من أكل الثوم، قال: وقد نقل القاضي عياض عن العلماء، أن المجذوم والأبرص يمنعان من المسجد، ومن صلاة الجمعة، ومن اختلاطهما بالناس، قال الأسنوي: وإنما يتجه جعل هذه الأمور أعذاراً لمن لا تتأتى له إقامة الجماعة في بيته، وإلا لم يسقط عنه طلبها لكراهة الانفراد للرجل، وإن قلنا إنها سنة، قال في المجموع: «ومعنى كونها أعذاراً سقوط الإثم على قول الفرض والكراهة على قول السنة لا حصول فضلها، ويوافقه جواب الجمهور عن خبر مسلم، سأل أعمى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرخص له في الصلاة ببيته لكونه لا قائد له؛ فرخص له؛ فلما ولى دعاه؛ فقال: هل تسمع النداء؛ فقال: نعم ، قال: فأجب. فهو قد سأل هل له رخصة في الصلاة ببيته منفردا تلحقه بفضيلة من صلى جماعة؟ فقيل: لا» .

منع الجذمى من مخالطة الأصحاء

     وقال البهوتي -رحمه الله- في (كشاف القناع) شارحا لعبارة الماتن: «وكذا من به برص وجذام يتأذى به»، قياسا على أكل الثوم ونحوه بجامع الأذى، ويأتي في التعزير منع الجذمى من مخالطة الأصحاء، قال الرحيباني الحنبلي في شرحه لقول الماتن: يعذر بترك جمعة وجماعة مريض ليس بمسجد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما مرض، تخلف عن المسجد، وقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» متفق عليه. ويعذر بذلك «خائف حدوث مرض».

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك