رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر 15 أبريل، 2013 0 تعليق

أثـار الفتـن (2) انصراف الناس عن العبادة


من آثار الفتن أنها سبب لانصراف العبد عن العبادة التي خُلق لأجلها والطاعة التي أوجد لتحقيقها والاشتغال بها وينصرف عن ذكر الله تبارك وتعالى، وتصبح حياته وأيامه وأوقاته مشغولة بالقيل والقال والأمور التي تُثار والفتن التي تتأجج وقلبه يكون مشوشاً مضطرباً مشغولاً، فلا يهدأ ولا يطمئن ولا يتحقق منه ذكر لله تبارك وتعالى على وجه الطمأنينة فيكون مضطرب القلب، مشوش البال، منشغل الخاطر؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: «عبادة في الهرج كهجرة إلي» (1).

     و«الهرج»: هو ما يكون في الناس من اضطراب، وعندما تموج الأمور وتضطرب، وينشب بين الناس الفتن والقتل ونحو ذلك، فالذي يكون في مثل هذا الوقت مشتغلاً بعبادة الله تبارك وتعالى هو كالمهاجر إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

وهذا يبين أن من كان في الهرج مشتغلاً بالعبادة فإنه موفق سالم من أوضار الفتنة.

     وأيضاً في الوقت نفسه يدل على أن الذي ينبغي على الإنسان في الفتن هو الإقبال على العبادة، وتجنب الفتن؛ ليفوز بالسعادة والراحة والطمأنينة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إن السعيد لمن جُنِّبَ الفتن» (2)، وكررها عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات.

فالسعادة في تجنب الفتن، والاشتغال بالعبادة والذكر، والطاعة لله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه جلَّ وعلا بما شرع من أنواع العبادات، وأنواع الأذكار، وأنواع القربات.

     وقد جاء في الصحيح من حديث أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعاً يقول: «سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن؟ ماذا أنزل الله من الفتن؟! من يوقظ صواحب الحجرات -يعني: أزواجه- يصلين»(3).

     فأرشد عليه الصلاة والسلام عند نزول الفتن إلى الصلاة، إلى عبادة الله تبارك وتعالى، إلى التقرب إليه، قال: «من يوقظ صواحب الحجرات يصلين، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة».

     وأيضاً: يدل على هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم»(4)، فأرشد إلى الأعمال الصالحة، بأن يُقبل الإنسان على طاعة الله، على الصلاة، على الذكر، على الدعاء، على تلاوة القرآن.

     وعندما تموج الفتن يُشغل الناس عن الأعمال وعن العبادات إلا القليل ممن يكتب لهم تبارك وتعالى توفيقاً وتسديداً وتأييداً.

     لما وقعت الفتنة في زمن التابعين قال الحسن البصري رحمه الله - وهو ممن اعتزل الفتن -: «يأيها الناس! إنه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة؛ فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضرع»؛ فإن الله يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (المؤمنون: 76) (5)».

     أي إن الواجب على الإنسان هو الاستكانة إلى الله، والتضرع إليه، وملازمة ذكره، وأن يُصلح حاله ونفسه وبيته، وأن يستقيم على طاعة ربه على الوجه الذي يُرضي الله تبارك وتعالى.

وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه في هذا المعنى أنه قال: «تكون فتنة لا يُنجِي منها إلا دعاءٌ كدعاء الغريق» (6).

ويعرف كل منا كيف يكون دعاء الغريق الذي أدركه الغرق، كيف يكون دعاؤه؟! يقول: «تكون فتنة لا يُنجِي منها إلا دعاء الغريق»، أنت تُقبل على الله تبارك وتعالى إقبالاً صادقاً بأن ينجيك ويجيرك ويسلمك ويحفظك.

صرف الناس عن العلم والعلماء

     من آثار الفتن وعواقبها: أنها تصرف الناس عن مجالس العلم ومجالسة العلماء وتعلم الأحكام ومعرفة الدين، وتكون القلوب مشغولة، وفيها نار الفتنة متأججة، فلا يطمئن القلب لطلب علم، ولا يقبل على مجالسة العلماء، بل يكون منصرفاً عن ذلك كله.

بل أزيد من ذلك وأعظم أنها تفضي بكثير من الناس إلى انتقاص العلماء واحتقارهم، وعدم معرفة أقدارهم، والوقيعة فيهم، وفي أعراضهم، والنيل منهم.

وقد جاء في الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه» (7).

     ففي الفتنة يقع كثير من الناس في انتقاص العلماء واحتقارهم ولمزهم وهمزهم والطعن فيهم والتقليل من شأنهم ورميهم بالأوصاف العظيمة، ويتجرأ على مقام العلماء جرأة سافرة سيئة، وذلك كله من آثار الفتن، والعياذ بالله.

     ومما جاء في هذا المعنى من الأخبار التي تُروى في التاريخ: أنه لما كانت فتنة عبد الرحمن بن الأشعث، وقد دخل في هذه الفتنة عدد من القراء وكثير من الناس، لما كانت هذه الفتنة انطلق نفر من الناس، فدخلوا على الحسن البصري، وهو إمام من أجلّة أهل العلم، وفقيه من كبار فقهاء الإسلام، فقالوا: ما تقول في هذا الطاغية - أي الحجاج - الذي سفك الدم الحرام وأخذ المال الحرام وترك الصلاة وفعل وفعل؟! وذكروا له من أفعال الحجاج، فقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: «أرى ألا تقاتلوه؛ فإنها إن تكن عقوبة من الله - أي تسليط الحجاج - فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين»، فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج؟! (8).

فلما تأججت الفتنة في نفوسهم؛ عندما يقول العالم قولاً لا يوافق أهواءهم ولا يمشي مع ميولاتهم وتوجهاتهم، رأساً يطعنون فيه.

والطعون ممن أُشربوا الفتنة في أهل العلم لا حد لها في قديم الزمان وحديثه، وربما رموه بمداهنة، وربما رموه بعمالة، وربما رموه بأوصاف وألقاب لا حد لها.

فالفتن تجريء الناس على مقام العلماء، وانتقاصهم، وتحقيرهم، والوقيعة في أهل العلم، وهذا من أخطر ما يكون على الإنسان، حمانا الله جميعاً من ذلك.

     ثم إن هؤلاء النفر الذين قالوا للحسن هذه المقالة ولم يستجيبوا لنصححه خرجوا مع ابن الأشعث فقُتِلوا جميعاً، ولم يحصلوا خيراً، ولم يستفيدوا أيضاً من نصائح أهل العلم؛ لأن أهل العلم لم يعد لهم مقام عندهم، وليس لكلامهم أي اعتبار أو أي شأن.

الهوامش:

1- أخرجه الطبراني في الكبير (20/213) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3974).

2- أخرجه أبو داود (4263) من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه، وصححه الألباني في الصحيحة (975).

3- صحيح البخاري (115، 1126، 3599، 5844، 6218، 7069 ).

4- أخرجه مسلم (118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

5- أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (7/164)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (12/178).

6-  أخرجه ابن أبي شيبة (7/531)، وجاء نحوه عن حذيفة رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة (6/22)، والحاكم ( 1/687) وصححه.

7- أخرجه أحمد (22755)، والحاكم (1/211) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وقال الألباني في صحيح الجامع (1/211): حسن.

8-  الطبقات الكبرى لابن سعد (7/163-164)، والكنى والأسماء للدولابي (3/1035)، وتاريخ دمشق (12/178).

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك