أثر الفردية في جمود العمل الإسلامي (2)
استكمالاً لما بدأنا الحديث عنه في المقال السابق عن أهمية العمل الجماعي وحتمية وجوده في واقع الدعاة، وذكرنا أن هناك أسباباً عدة تدعو إلى الفردية ذكرنا منها: التذرع ببعض النصوص الشرعية التي تتحدث عن فضيلة الانعزال أو الترغيب في الانزواء، وذكرنا أن هذه النصوص فهمت على غير مرادها، واليوم مع السبب الثاني من تلك الأسباب وهو الخوف من عدم تحقيق الذات أو هضم الشخصية.
وردًا على هذه الشبهة أو هذا السبب نقول: إن الجماعة الواعية ليس من صالحها إلغاء شخصية أفرادها؛ لأنها تستفيد من تفاوت إمكانياتهم وتنوع قدراتهم, وأيضاً فالإسلام لا يربي أتباعه على هذه الأخلاق, بل يزرع فيهم الجرأة المنضبطة والشجاعة الأدبية والناظر إلى تاريخ المسلمين وسير الصحابة يجد هذا الأمر واضحاً تماماً، فهذا أبو بكر رضي الله عنه يطلب من رعيته أن يقوموه إذا أخطأ فيقول في خطبة ولايته: «إني وليت عليكم ولست بخيركم؛ فإن أخطأت فقوموني».
ومع ذلك يجب علينا أن نلاحظ ما يلي:
أن المسلم خير له أن يكون ذنبًا في الحق، من أن يكون رأسًا في الباطل.
ليس معنى تحقيق الشخصية هو عدم الالتزام بالضوابط أو عدم مراعاة الآداب؛ لأن العشوائية من سلبيات أي عمل, ومن مزايا الأعمال الجماعية أنها تربى الفرد على النظام وتخلق فيه آداب التعامل مع الآخرين التي لا ينفك الإنسان عنها بحال.
الخوف من تبعات الأعمال الجماعية
ومن الأسباب الداعية للانعزال والفردية أيضًا، الخوف من تبعات الأعمال الجماعية؛ إذ التكاليف لا تنتهى، وغالبًا ما تستهلك معظم الأوقات فتشغل صاحبها عن باقي المهمات مثل تحصيل العلم, تربية النفس والاستغفار والذكر وغيرها.
وردًا على ذلك نقول: بالنظر إلى هذه الشبهة نجد أن صاحبها قد توهم تعارضًا بين الأعمال الدعوية من ناحية وبين التكاليف الشرعية من ناحية أخرى, وهذا لايقع فيه الإنسان إلا من قبيل خلط الأوراق وعدم تنظيم الوقت، أو بتحميل النفس من الأعمال ما لا يطيقه؛ إذ الأصل في ذلك قول الله -عز وجل-: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}.
وإن إخراج الأعمال الدعوية من كونها عبادة من أجل العبادات تساهم في زيادة الإيمان وتزكية النفس كما هو الحال في غيرها من التكاليف لا يقع فيه الإنسان إلا إذا فقد روح هذه الأعمال أو أداها بطريقة روتينية من غير استحضار النوايا وتعهد النفس، والواجب على الداعي أن يوفق بين هذه الطاعات و أن يستعين بالله في إنجازها لا أن يصادم بعضها ببعض.
الاحتكاكات بين الأفراد
كذلك من الأسباب الداعية للفردية والعزلة الخوف من الاحتكاكات بين الأفراد، التي قد تولد ضغائن أو تثير مشكلات فيؤثر الفرد عدم المخالطة حفاظاً على سلامة صدره ونقاء قلبه.
وردًا على ذلك نقول: أولاً: هذا وإن وجد فليس علاجه الفرار بل الصمود حتى يصلح الإنسان نفسه وإخوانه وقد حدثت بين الصحابة بعض الخصومات والمشاجرات، لكن لم يحمل أحدٌ منهم على أخيه، ولم يدفعه هذا إلى ترك الجماعة أو اعتزال المسلمين.
ثانيًا: أن الاجتماع وإن أدى إلى كدر؛ فإن الإنسان مطالب بالصبر عليه تحقيقاً لمصالح أخرى تفوق هذا الضرر اليسير كما قال الله -عز و جل-: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا}.
لاتوجد تعليقات