أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري (3)
الجامـع الصحيـح للبخـاري مـن أصـح الكتـب بعـد كتـاب الله -تعالـى-، والدفـاع عنـه دفـاع عـن الإسلام، وفــي رد ُشــبَه المعاصريــن الطاعنــة فــيه صيانـة للسـنة مـن عبـث العابثيـن، وإغلاق للباب أمـام المتربصيـن والمغرضيـن، وفــي ذكــر الفــرق الطاعنــة فــي الجامــع الصحيــح وبيــان دوافعهـم وكشـف مخططاتهـم تبصيـر لأبنـاء المسـلمين بكيـد أعـداء الديـن، وتحذيـر للذيـن يجهلـون أمرهـم، واليوم مع الشبهة الأولى والرد عليها.
الشبهة الأولى
قولهم: إن البخاري بشر يصيب ويخطئ وليس بمعصوم؛ ولهذا لا نجزم بصحة كتابه:
ويُرد على هذه الشبهة بما يلي:
مفهوم خطأ
- أولا: إن عدم العصمة لا يعني أنه لابد من وجود الخطأ في كل عمل، وإنما يعني احتمال وجود الخطأ، وهناك كثير من الأعمال المشاهدة التي أتقنها أصحابها غاية الإتقان، فلا تكاد تجد فيها خطأ، ولا مانع عقلا ولا شرعا ولا عادة من أن يعمل الإنسان عملا صوابا يسلم فيه من الأخطاء؛ ولهذا فإن من يدعي وجود خطأ في عمل ما، عليه أن يأتي بحجة تثبت وجود ذلك الخطأ، أما زعم وجود الخطأ بمجرد احتمال وقوعه فهو حجة فاسدة؛ وبهذا نعلم أن عدم عصمة البخاري لا يعني عدم صحة جامعه، والأخطاء المزعومة التي يدعون أنها تمنع الوثوق به، متوهمة لا وجود لها، ولا دليل عليها.
ليس مسوغا للهدم
- ثانيا: إن وجود الخطأ اليسير والنادر في عمل من الأعمال البشرية التي عرفت بالجودة والإتقان، ليس مسوغا لهدم ذلك العمل أو عدم الوثوق به، ما دام صوابه غالبا وخطؤه نادرا، بل يقتضي العدل والإنصاف و منطق العقل أن يغمر يسير الخطأ في بحر الصواب؛ ولهذا عد العلماء الانتقادات اليسيرة التي وجهت للجامع الصحيح في عداد العدم؛ فهي غير قادحة في صحته، ولا موجبة لعدم الوثوق به.
أتقن غاية الإتقان
- ثالثا: إن الإمام البخاري أتقن كتابه غاية الإتقان، ولاسيما في جانب التثبت من صحة الأحاديث، وقد وضع شروطا صارمة جدا لصحة الحديث لم يضعها أحد غيره، وبهذا خرجت أحاديث كثيرة عن شرطه لعلة يسيرة أو شبهة دقيقة ، ومع ذلك كان يتقرب إلى الله بالصلاة عند وضع كل حدیث رجاء أن يوفقه الله في كتابه، قال الفربري: قال لي محمد بن إسماعيل البخاري: «ما وضعت في كتاب الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين».
وقد أمضى الإمام البخاري سنين عدة في تمحیص كتابه وتدقيقه، كما قال: «صنفت كتابي الصحيح لست عشرة سنة، خرجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله -تعالى».
العرض على جهابذة علماء الحديث
- رابعا: إن الإمام البخاري عرض كتابه الجامع الصحيح على جهابذة علماء الحديث في زمانه، كما حكى ذلك العقیلی فقال: «لما ألف البخاري كتابه الصحيح، عرضه علی ابن المديني ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل وغيرهم، فامتحنوه، وكلهم قال: كتابك صحيح إلا أربعة أحادیث»، قال العقيلي: «والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة».
وسمع الجامع الصحيح من الإمام البخاري خلق كثير من طلابه النجباء، الذين يقدرون بالآلاف، قال الفربري: «سمع الصحيح من البخاري تسعون ألفا، ويرى بعض المحققين أن عددهم أكثر من ذلك، وقد اهتم هؤلاء الرواة بالجامع الصحيح أشد الاهتمام؛ فكانوا يقرؤونه كلمة كلمة، ويفحصونه حرفا حرفا.
فالجامع الصحيح لم يقتصر العمل فيه على جهد الإمام البخاري وحده، بل فحصه جهابذة العلماء الذين هم شيوخ البخاري وأقرانه وتلامذته، بل استمر الفحص والتدقيق لعصور مديدة، فأجاز هؤلاء العلماء الجامع الصحيح وأدوا الإمام البخاري في الأعم الأغلب من صحيحه، ولم ينتقدوا فيه شيئا سوى أحرف يسيرة لا تكاد تذكر.
فالكتاب إذاً بصورته الحالية يعد عملا جماعيا؛ وهذا يدل على قلة نسبة الخطأ فيه؛ لأنه روجع من قبل آلاف الجهابذة من علماء الحديث، ومن ذوي المعارف المختلفة.
الأمة تلقته بالقبول
- خامسا: إن الأمة تلقت الجامع الصحيح للإمام البخاري بالقبول، قال ابن الصلاح: «ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه و من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ، كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن.
وقال النووي: اتفق العلماء رحمهم الله - على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحیحان البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف؛ ظاهرة وغامضة».
وقد سبق الجامع الصحيح كتب أخرى، وقد جاءت بعده كتب كثيرة، وجميعها لم تحظ باتفاق الأمة عليها، سوى صحيح مسلم، والجمهور على أن صحيح البخاري أفضل منه، فكيف يكون الجامع الصحيح غير موثوق به لاحتمال وجود أخطاء فيه والأمة تتلقاه بالقبول وتتفق على صحته؟!
الشبهة الثانية:
- الشبهة الثانية: أن البخاري مات ولم يكمل كتابه وتركه مسودة، وأكمله من بعده، ومن شأن المسودات عدم التمحيص:
اتكأ أصحاب هذه الشبهة، في تأييد شبهتم على ما نقله ابن حجر في فتح الباري عن المستملي، قال: «انتسخ كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري، فرأيت فيه أشياء لم تتم، وأشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئا، ومنها أحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض ».
ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
- أولا: إن كلام المستملي يدور حول تبويب الجامع الصحيح وترتيبه، ويوضح ذلك الأمثلة التي ذكرها، فمثل للأشياء التي لم تتم بأحاديث لم يترجم لها، وللأشياء المبيضة بالأبواب التي لم يذكر تحتها حديثا، ومن المعلوم أن صنیع الإمام البخاري، في ترجمة أبواب صحيحه يعد من الأمور الباهرة التي أدهشت العلماء، وعجز أكثرهم عن حل رموزها ومعرفه أسرارها، وفي هذا يقول القسطلاني: «تراجمه حیرت الأفكار، وأدهشت العقول والأبصار، ولقد أجاد القائل:
أعيا فحول العلم حل رموز ما
أبداه في الأبواب من أسرار
ولما كانت تراجم الإمام البخاري بهذه المنزلة فقد يظن بعض العلماء أن هناك أشياء لم تتم، أو أن البخاري لم يبيض كتابه، ويؤكد ذلك قول ابن حجر -وهو يشرح منهج البخاري في تراجمه -: «وربما اكتفى أحيانا بلفظ الترجمة التي هي لفظ حدیث لم يصح على شرطه وأورد معها أثرا أو آية، فكأنه يقول: لم يصح في الباب شيء على شرطي، وللغفلة عن هذه المقاصد الدقيقة اعتقد من لم يمعن النظر أنه ترك الكتاب بلا تبييض، ومن تأمل ظفر، ومن جد وجد».
- ثانيا: إن كلام المستملي - كما سبق بيانه، إن ثبت - يتعلق بتراجم الجامع الصحيح فقط، أما الأحاديث - التي هي بالجامع الصحيح وأساسه - فلا تدخل في كلامه؛ ولم ينقل عن أحد يوثق بكلامه أن أحاديث الجامع الصحيح فيها نقص أو خلل لم يكمله الإمام البخاري، وعليه: فإن ادعاء وجود تراجم لم تتم، لا يقدح في صحة الجامع الصحيح، ولا يم الوثوق به؛ لأن الحجة ليست في تراجمه وإنما في أحاديثه وقد جمع القرآن في كتاب واحد بعد أن كان مفرقا بعد وفاة النبي ، ولم يقدح أحد ممن يعتد بقولهم - في الاحتجاج بالقرآن بحجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -مات ولم يجمعه.
- ثالثا: إن الإمام البخاري عرض كتابه على العلماء، وأسمعه الآلاف من تلاميذه كما سبق بيان ذلك، فإذا لم يكمل الإمام البخاري كتابه ولم يهذبه وينقحه، فلا يتوقع عرضه على العلماء وإسماعه للطلاب، وكيف يقول: صنفت كتابي الصحيح لست عشرة سنة، وهو لم يكمله ولم يبيضه؟ ولا يشك - عاقل أن هذا القول كان بعد إكمال الكتاب وتبييضه.
لاتوجد تعليقات