آلاف الليبيين دفعوا ثمن جنون العظمة والنهم للسلطة شمس نظام القذافي تقترب من الغروب
لم تشهد الدول العربية على مدار تاريخ الدولة العربية الحديثة موجات تصفية جسدية تورطت فيها حكومة مثلما تورطت حكومة العقيد الليبي معمر القذافي خلال الأسبوع الماضي؛ إذ لم يترك الزعيم الليبي فرصة للتنكيل بأبناء جلدته المحتجين على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعانيها الشعب الليبي رغم أنه كان مؤهلاً بنعم من الله لكي يكون في مقدمة الدول العربية الأكثر ثراءً.
لكن الأوضاع الشاذة التي عانتها ليبيا طوال الـ 42 عامًا الماضية وشهدت مغامرات عديدة للعقيد سواء في دخولها في حروب ومواجهات عسكرية مع الحكومة التشادية أم في حكم السادات في مصر ومع نظام جعفر النميري في السودان، وتورطه في إشعال صراعات وانقلابات عسكرية في القارة الأفريقية بل وتقديمه مئات الملايين من الدولارات للجيش الجمهوري الأيرلندي أو متمردي السان دي نيستا في نيكارجوا، ووقوفه وراء تفجير طائرة البان أميركان في لوكيربي باسكتلندا وما تبعه من تقديم ليبيا تعويضات للولايات المتحدة قد تصل لخمسة مليارات دولار فرض أوضاعًا اقتصادية صعبة على الشعب الليبي وأضاع عليه فرصا عديدة للتنمية وتطوير البنيته التحتية من مستشفيات ومدارس ومرافق لا تخطئ العين مدى الأوضاع السيئة التي وصلت إليها، ولاسيما في شرق البلاد لدرجة أن المدارس والمستشفيات الليبية لا تتوافر فيها في الأغلب الأعم كوادر وطنية قادرة على تشغيلها.
قسوة ودموية
وكان لافتًا بشدة مدى القسوة التي تعاملت بها السلطات الليبية وميليشيات العقيد مع مطالب الشعب الليبي العادلة والتي صم القذافي أذنيه عنها لمدة أربعين عامًا؛ حيث لجأ في سابقة هي الأولى من نوعها للطائرات المقاتلة والمروحيات لإسكات صوت الغاضبين في مدينة بنغازي ومصراتة وسبها والبيضا والزواية، مما خلف قتلى بالآلاف لم يواجهوا هذا المصير في الأيام الأخيرة على يد الاحتلال الإيطالي للبلاد الذي استمر ما يزيد على أربعين عامًا.
ولم يكتف القذافي بالاعتماد على وحدات جيشه في التصدي لمطالب شعبه بل لجأ إلى المرتزقة من الدول الأفريقية المجاورة الذين استمتعوا طوال السنوات الماضية بأموال الشعب الليبي وحان وقت رد الجميل لحاكم ليبيا والدفاع عن حكمه للبلاد بالحديد والنار طوال الأربعين عامًا الماضية؛ حيث أمعن هؤلاء في ترويع الآمنين وتصفية الشباب في مجمل المدن الليبية بل مازال القذافي يزعم ورغم مقتل الآلاف من الليبيين - أنه لم يستخدم الحد الأقصى من القوة عبر جحافل الزحف المقدس كما يسميها، وكأنه يجهز الساحة لمذبحة غير مسبوقة في تاريخ الشعب الليبي والمنطقة.
وضرب القذافي بوجوه ليبيا عرض الحائط عندما أعلن عن عزمه تسليم الأسلحة للقبائل لتتقاتل فيها بينها وتشتعل الحرب الأهلية في مسعى منه لمواجهة حجم الضغوط الغربية المتصاعدة عليه اعتراضًا على مذابحه في صفوف الشعب الليبي بل أنه جاهر خلال خطابه وخطاب نجله بأن ليبيا تتجه للمجهول وللتقسيم وللفقر في حالة إصرار المعارضة على إسقاط ما أسماها بـ «الثورة»، وهو أسلوب يجيده العقيد لتخويف المجتمع الدولي من عواقب سقوط نظامه وتولي إسلاميين يضرون بمصالح الغرب النفطية، بل يشكلون دعمًا لتنظيمات عالمية متطرفة معادية للغرب، بل إنه قد يقوم بتدمير آبار النفط سعيًا لإيجاد ما يمكن أن يطلق عليه الأرض المحروقة وذلك لتخويف الليبيين والغرب على حد سواء من مستقبل مظلم لليبيا ولمصالحهم بها.
انشقاقات متتالية
ولكن العقيد فوجئ بنظام حكمه يتهاوى عبر انشقاق عديد من وحدات جيشه عليه وانضمامها للاحتجاجات، بل تقديم عشرات من السفراء الليبيين في الخارج لاستقالتهم اعتراضًا على استخدام القمع الدموي في مواجهات الاحتجاجات، وقد بدأت الاستقالات من قبل رفيق القذافي في الثورة عبد المنعم الهوني مندوب ليبيا الدائم في الجامعة العربية وتلاه سفراء القذافي في بلدان عديدة من الاتحاد الأوروبي ومندوبيه في الأمم المتحدة وسفرائه لدى المنظمات الدولية، وهي استقالات تؤكد أن شمس هذا النظام الذي حكم ليبيا بالحديد والنار خلال الأربعين عامًا الماضية ولم يترك فرصة لإذلال شعبه إلا وأقدم عليها قد اقتربت من أن تغرب.
فقدان السيطرة
ولعل من يتابع الأحداث الأخيرة يرى أن أغلب المدن الليبية لم تعد تحت سيطرة القذافي باستثناء مدينة سرت التي تعد مسقط رأسه حيث خرج الشرق والوسط الليبي من تحت سيطرته، بل توحدت قوى المعارضة وراء هدف واحد هو إسقاطه معلنين أنهم متفقون على وحدة التراب الليبي وكأنهم يردون على مزاعم العقيد بأن التقسيم قادم للأراضي الليبية، بل وإنه ردد خلال خطاباته مزاعم عن وجود إمارات إسلامية في بنغازي وبرقة وهو أمر نفته جميع فصائل المعارضة الليبية التي ترى أن أيام العقيد في السلطة توشك على الانتهاء.
وبعيدًا عن مغامرات القذافي وتبديده لثروات الشعب الليبي في تجنيد موالين له وعصابات من البلدان الأفريقية المجاورة مستغلاً الأوضاع الاقتصادية شديدة الصعوبة فإن الأزمة التي يعانيها نظام حكمه جعلت القوى المناوئة له في الخارج تفتح ملف ثرواته، حيث أكدت صحيفة الفاينينشال تايمز البريطانية أن ثروة العقيد الشخصية وعائلته تزيد على 150 مليار دولار تم توزيعها في أرصدة في بنوك الغرب ودول جنوب شرق آسيا فإن صح ذلك الخبر فهو رقم فلكي خطير في الاستيلاء على أموال الشعب، ومشاريع عقارية في بلدان عدة أو استثمارات في مشاريع تنموية في بقاع عديدة من العالم؛ حتى توجد صعوبة في ملاحقة هذه الأموال من جانب أي حكومة ليبية وطنية، ولاسيما أن القذافي عمل طوال سنوات حكمه على سيطرة النهج القبلي على نظام الحكم وإبعاد البلاد عن النسق المؤسسي بهدف إدامة نظام حكمه لأطول فترة ممكنة، بل إنه يراهن خلال الساعات الأخيرة على عدد أنصاره من قبائل القذاذفة والمحارجة لعلهم يشكلون طوق نجاة لنظامه المتداعي.
أوراق محروقة
ولكن بعضهم يرى يعتبر أن جميع أوراق القذافي قد حرقت، فالدول العربية التي تعد الداعم الأول لحكمه تبدو مستعدة لرؤية ليبيا بدون القذافي بعد أن أيقنت أن سقوطه مسألة وقت لا أكثر، وهو ما يتفق معه السفير الليبي المستقيل لدى الجامعة العربية عبد المنعم الهوني حيث يؤكد أن حكم القذافي قد انتهى عمليًا بعد أن فقد سيطرته على جميع الأراضي الليبية ولم يعد له نفوذ إلا على منطقة سرت وباب العزيزية بالقرب من طرابلس.
وأوضح الهوني أن نظام القذافي قد ارتكب أكبر مجزرة في تاريخ الشعب الليبي بشكل كرس عزلته في الداخل والخارج لافتًا إلى أن النظام لم يعد يبدي أي حرج في عدم الحفاظ على وحدة ليبيا بعد أن سعى لإشعال حرب أهلية لإدامة مدة بقائه في السلطة معتبرًا أن خطاب القذافي الابن ولهجته المتكبرة هي التي جعلت التوصل لتسوية مع الشعب الليبي أمرا مستحيلاً.
وقلل الهوني من أهمية مزاعم نظام القذافي بإمكانية تقسيم ليبيا أو تحولها لمقر للجماعات المتطرفة، مشيرًا لوجود توافق بين جميع القوى الليبية على صيانة وحدة البلاد، لافتًا إلى أن ثروة الشعب الليبي الضخمة قادرة على تعويض كل ما فات خصوصًا أنها استخدمت طوال العقود الماضية في مغامرات لم يجن منها الشعب الليبي شيئًا إلا العزلة والتراجع وانهيار مرافقه.
وعن موقف المجتمع الدولي أوضع الهوني أنه لم يمارس الضغوط المناسبة على القذافي حتى الآن على مصالحه النفطية، مشيرًا إلى أن مصالح الغرب تبقى مع الشعب الليبي وليس مع هذا النظام المستبد والدموي.
ولم يستبعد الهوني أن يلجأ القذافي إلى إجراءات غير متوقعة خلال المرحلة القادمة قد يكون من بينها تفجير النفط وارتكاب مذابح غير أن هذا كله لن يثني الليبيين عن إسقاطه.
لاتوجد تعليقات