آفاق التنمية والتطوير (6) التننمية المستدامة.. الدلالة والأبعاد الاستراتيجية
- الإسلام أول من دعا إلى تطبيق مفهوم التنمية المستدامة قبل أكثر من 1400 عام بل إن مفهوم التنمية المستدامة في الإسلام أكثر شمولاً
- أهم مقوم في الإسلام لنجاح عملية التنمية المستدامة هو الإيمان والعمل الصالح
- يعدّ نظام الوقف الإسلامي آلية عظيمة من آليات تحقيق التنمية المستدامة وقد نشأ نتيجة لحث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة الجارية
نسعد بلقائكم عبر هذه النافذة (آفاق التنمية والتطوير)، لنقدم لكم آفاقًا جديدة من التفكير والتطوير؛ وذلك قيامًا بواجب نشر العلم وحمل الأمانة لإعمار الأرض، وتطوير نمط الحياة بما يحقق التنمية المستدامة، ونسعد بتلقي اقتراحاتكم وتعليقاتكم على بريد المجلة.
التعريف والدلالة
يمكن تعريف التنمية المستدامة بأنها تلك التنمية التي تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والبيئية، إلى جانب الأبعاد الاقتصادية؛ لحسن استغلال الموارد المتاحة لتلبية حاجيات الأفراد، مع الاحتفاظ بحق الأجيال القادمة من تلك الموارد، ومن ثم فإن الهدف الأكبر للتنمية المستدامة تحسين ظروف المعيشة للأفراد جميعهم، دون زيادة استخدام الموارد الطبيعية إلى ما يتجاوز قدرة كوكب الأرض على التحمل.الأبعاد الاستراتيجية
يشكل الإنسان محور تلك التنمية من خلال تحسين مستوى الرعاية الصحية والتعليم والرفاه الاجتماعي، في جو يسوده العدل والمساواة، ووفق تقرير التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية: «ينبغي أن يكون الرجال والنساء والأطفال محور الاهتمام، فتنسج التنمية حول الناس، وليس الناس حول التنمية، وذلك للأجيال الحاضرة والقادمة»، ومن الأبعاد المهمة للتنمية المستدامة التنمية الاجتماعية، وذلك نظرا لكون جميع شعوب العالم بحاجة إلى العمل والغذاء والتعليم والطاقة والرعاية الصحية والماء، وتقوم التنمية المستدامة على ركائز ثلاث: الكفاءة الاقتصادية، والكفاءة الاجتماعية، والكفاءة البيئية.الإسلام ومفهوم التنمية
ومن الجدير بالذكر أن الإسلام كان أول من دعا إلى تطبيق مفهوم التنمية المستدامة قبل أكثر من 1400 عام، بل إن مفهوم التنمية المستدامة في الإسلام أكثر شمولاً، فالنظرة الإسلامية توجب ألا تتم هذه التنمية بمعزل عن الضوابط الدينية والأخلاقية، فلا تقتصر التنمية المستدامة على الأنشطة المرتبطة بالحياة الدنيا وحدها، وإنما تمتد إلى الحياة الآخرة، ومن هنا فإن التنمية المستدامة في المنظور الإسلامي لا تجعل الإنسان ندا للطبيعة، ولا متسلطاً عليها، بل تجعله أميناً عليها، محسناً لها، رفيقاً بها وبعناصرها، يأخذ منها بقدر حاجته وحاجة من يعولهم، دون إفراط ولا تفريط.الأدلة الشرعية
ومما ورد من الأدلة الشرعية في التوجيه إلى مبادئ التنمية المستدامة ما يلي:- {مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}
- {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}
- النهي عن الإسراف
الحث على إحياء المَوَات
حث الإسلام على إحياء المَوَات، وفي هذا دافع قوي نحو تحقيق التنمية المستدامة؛ لما تضمنته من تحفيز الأفراد على العمل على إحياء الأرض الموات؛ وذلك من خلال منح الحوافز الدنيوية والأخروية. ومن أمثلتها: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ»، و»مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقّ بها».«إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ!»
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمضيفه الأنصاري الذي أراد إكرامه بذبح شاة: «إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ!»، أي نهى النبي مضيفه أن يعمد إلى شاة ينتفع بدرِّها ولبنها، فيذبحها، وهنا نجد الحرص على استمرارية الانتفاع من لبن الحلوب بأكبر قدر ممكن، وحفظ النسل والثروة الحيوانية.الوقف الإسلامي نظام تنموي
يعدّ نظام الوقف الإسلامي آلية عظيمة من آليات تحقيق التنمية المستدامة، وقد نشأ نتيجة لحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة الجارية، وقد كانت من أوائل الأوقاف التي أنشئت في الإسلام في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - تلك الأوقاف ذات الطابع البيئي المستدام، وهو السبعة حوائط (بساتين)، التي أوصى بها مخيريق اليهودي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يضعها حيث يشاء، فجعلها - صلى الله عليه وسلم - صدقة في سبيل الله. ولا شك أن وقف هذه البساتين للفقراء والمساكين يعني الاستمرار في الحفاظ على خصوبتها، والاعتناء بأشجارها وثمارها، إلى جانب توفير الأمن الغذائي لفقراء المسلمين، وهناك قصة بئر رُومَةَ بالمدينة المنورة، التي اشتراها عثمان بن عفان - رضي الله عنه - من حرّ ماله، وتصدق بها على السابلة، نتيجة لحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ومثل هذا النوع من الوقف لا يخفى دوره في توفير الأمن المائي.علاج الفقر
كما جعل في الزكاة والصدقات طهرة للمال وأجرا للمسلم، ووقاية للمجتمع من الفقر والحاجة، ومواساة للفقراء والمحتاجين، وإشاعة لروح المحبة والتعاون والتكافل بين الناس، وحث على إطعام الطعام وإقراض المعسر وإمهاله، كما في قوله -تعالى-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان 8-9)، وقوله -تعالى-: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (الحج 28)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خِيَارُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَام»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَام». ويكفي لإدراك أهمية تطبيق مثل تلك التعاليم الإسلامية، والتوجيهات الربانية، في إصلاح البشرية أن نعلم أن التقديرات العالمية تشير إلى أن أكثر من 700 مليون شخص أو 10% من سكان العالم، ما زالوا يعيشون في فقر مدقع، ويكافحون من أجل تلبية الاحتياجات الأساسية مثل الصحة والتعليم والحصول على المياه والصرف الصحي، ومن المتوقع أن يعاني مليارا شخص من نقص التغذية بحلول عام 2050.عمارة الأرض وتسخير الكون
ولعل أهم مقوم في الإسلام لنجاح عملية التنمية المستدامة هو الإيمان والعمل الصالح، وذلك استناداً لقول الله -عز وجل-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (الأعراف 96)، وقوله -جل في علاه-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (النحل 97)، وقوله -تعالى-: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} (المائدة 66)؛ وبذلك نعلم أن مفهوم التنمية في الإسلام، ينطلق من مبدأ تسخير الكون للإنسان ليعمر الأرض، وفق مبادئ الحكمة الإلهية بما يحقق الاستخلاف في الأرض، مع الحفاظ على حسن أداء الأمانة فيها، وهو مفهوم شامل لنواحي التعمير في الحياة كافة. ونستنج من ذلك كله، أن التنمية في الإسلام جزء لا يتجزأ من الشريعة الإسلامية، والقيم الإسلامية المستوحاة من الكتاب والسنة، وهي فريضة فرضها الإسلام على الأفراد والجماعات لضمان سعادة الفرد والمجتمع.
لاتوجد تعليقات