آداب الطريق للطفل المسلم
يطالب دين الإسلام أفراده المسلمين بأن يلتزموا في سلوكهم فيما بينهم بآداب وأخلاق رفيعة، مع التحذير من الشحناء والبغضاء، والإيذاء، والتكبر والافتخار، وغير ذلك من ذميم الأخلاق، يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (لقمان:18-19)، فتشير الآيتان الكريمتان إلى آداب عامة مع الناس في حسن المخاطبة، وترك الكبر، واحتقار الناس، والأمر بالتوسط في السير، وخفض الصوت بقدر الحاجة، وذلك ليعيش الناس في جو من الأنس بعيداً عن التوتر والبغض، الذي يقع في النفوس من جراء الاتصاف بهذه الصفات المذمومة.
وفي هذا المجال يقول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «اتق الله حيث ما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»، أي عاملهم معاملة طيبة ولا تسئ إليهم بقول أو فعل.
وهذه التوجيهات الخلقية المباركة يجب أن تجد لها متنفساً اجتماعياً واقعياً تمارس فيه، فالأخلاق لا يمكن أن تكون تصورات ذهنية لا واقع لها ولا تطبيق؛ فإنها بذلك تتفلت وتندثر، ولا يمكن أن تثبت إلا بالممارسة والمداومة عليها.
لهذا كان لزاماً على الأب أن يوجه ولده إلى هذه الآداب، والكليات الخلقية، ويهيئ له فرصة عملية للممارسة والتطبيق، لترسيخ المفاهيم، ولتصبح خلقاً في النفس لا تنفك عنه ولا تنفصل، فالطريق، وأماكن تجمعات الناس يمكن أن تمارس فيها كثير من هذه الأخلاق والآداب، فإذا كان الأب مع الولد في الطريق وشاهد فقيراً رث الثياب، حافي القدمين، تظهر عليه علامات المسكنة والضعف، هنا يسأل الأب ولده - بعد أن يلفت نظره إلى هذا المسكين- ويقول له: ما رأيك يا ولدي في هذا الرجل؟ فيجيبه الولد: هذا رجل فقير وسخ الثياب، فيقول له الأب: أما تعلم يا ولدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره»!! يا بني ما يدريك أن هذا الفقير له عند الله منزلة عظيمة، وما يدريك أنه لو سأل الله شيئاً لاستجاب له!!
هذا الأسلوب التوجيهي للولد يعلمه عدم احتقار غيره، حتى وإن كان من الخاملين الضعفاء، ويعلمه أيضاً أن الميزان عند الله التقوى والإخلاص، لا المظهر وحسن الثياب، كما أن تفضيل الناس بعضهم على بعض غيب لا يعلمه إلا الله.
ويعلم الوالد ابنه الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم عند رؤية المصابين بالعاهات، مثل: الأعمى، والأعرج، والمريض، وغيرهم، فإن شاهدا مصاباً أو مبتلى ذكّر ولده بالدعاء الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : «الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً» ويطلب إليه ترديده ليحس الولد بنعمة الله عليه وفضله، بأن جعله سوياً في خلقته، معافى في بدنه وصحته.
وأكثر الأطفال يهابون القرب من المصابين بالعاهات خوفاً منهم، فلو حاول الأب أن يثبت لولده أنه لا داعي لهذا الخوف فقد أحسن، ويمكن تطبيق هذا عن طريق القرب من أحدهم ومصافحته أو حمله في السيارة ليصل إلى بيته، فيرى الولد أنه لا داعي للخوف منهم، بل يجب العطف عليهم، ومواساتهم وتقديم العون لهم قدر الإمكان.
وللسلام منزلة مرموقة في الإسلام، فهو شعار خير، وتأليف للقلوب، ونشر للمحبة، خاصة أنه جاء الأمر من الله عز وجل برد السلام حيث قال: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء:86)، فإذا سلّم المسلم وجب رد السلام عليه بمثل ما قال أو يزيد؛ فإن إلقاء السلام سنة مستحبة، أما رده ففريضة واجبة.
ويؤدب الأب ولده ويعلمه هذه السنة المباركة، فإذا شاهد الكبير أمره بالسلام عليه، وإذا مر بالقاعد أو بجمع من الناس أمره بالسلام عليهم، ويكون الأب نفسه قدوة في ذلك، يحرص على إلقاء السلام ورده متأدباً مع الكبير والقاعد والجمع الكثير، فيبدأهم بالسلام؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم منظماً لهذه السنة، وواضعاً أصولها وآدابها: ((يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير))، ويحاول الأب أن يرغِّب ولده في السلام عن طريق تعريفه بأن السلام طريق الجنة وأن له بالسلام أجراً عند الله تعالى.
ومن آداب الطريق السهلة والميسرة التي رتب عليها هذا الدين أجراً كبيراً، قضية إزالة الأذى عن طريق المسلمين، حيث قال صلى الله عليه وسلم : «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك فأخذه فشكر الله له فغفر له» فإن هذا العمل في ظاهره يسير وسهل، ولكنه يدل على تلك النفس الطيبة الزكية التي تحب لغيرها من المسلمين ما تحبه لنفسها، فإماطة ما يؤذي المسلمين عن الطريق يدل على حبهم، والسعي في خيرهم، وتجنيبهم ما يضرهم؛ لهذا كان أجر هذا المحسن كبيراً عند الله تعالى.
وهذا التوجيه النبوي المبارك يمكن أن يتعلمه الولد عن طريق التوجيه المباشر من الأب، فضلاً عن المشاهدة والقدوة، فإذا شاهد الأب شيئاً يمكن أن يؤذي المارة من حجر أو قشرة موز، أو قطعة خشب، أو غير ذلك أزالها من الطريق وأمر ولده بذلك، وإذا كان في سيارته وشاهد سقوط حجر أو غصن شجرة من سيارة النفايات وخشي سقوط كميات أخرى على الطريق لحق بقائد السيارة وأشعره بذلك، فإن لم يتمكن من اللحاق به أوقف سيارته ونزل هو والولد وحملا الغصن أو الأحجار عن الطريق، موضحاً لولده أن هذا واجب المسلم، وأن الأجر عند الله على ذلك المغفرة والجنة، وبهذا العمل اليسير يتعلم الولد درساً عظيماً في معاني الأخوة وحب المسلمين.
وفي هذا المجال يحذر الأب كل الحذر من إلقاء النفايات في الشارع، أياً كانت صغيرة أم كبيرة، فإن كان في البيت وضعت النفايات في الأوعية المخصصة لذلك، وإن كان في السيارة وضعت النفايات في أكياس صغيرة ثم تلقى في الأماكن المخصصة لها، وإن كان يسير على قدميه وضعها في جيبه، وهكذا لا يلقي شيئاً أمام الولد في أي مكان، فإن فعل خطأ وشاهده الولد سارع بالاعتذار بالنسيان والخطأ.
والأب إن لم يفعل هذا ويحتط ويكن قدوة في هذا المجال، فإن كل ما بناه في ذهن الولد نظرياً من آداب الطريق والمحافظة على نظافته، يمكن أن يهدم بواقعة واحدة من أخطاء الأب في التطبيق العملي.
وربما يخطئ الولد في بعض الأحيان - بعد التوجيه والبيان- ويتغافل عن هذه الآداب، فإن حصل أن رمى بشيء من نافذة البيت، أمر بإعادته، وإن رمى بشيء من السيارة في الطريق العام أعاد الأب السيارة إلى الموقع وأمره بإعادة ما رمى.
هذه الدروس - وإن كان فيها بعض العنت على الأب - إذا تلقاها الولد مرة أو مرتين فإنه لن يتجرأ بعد ذلك، ولن يتهاون في هذا الأدب الإسلامي الرفيع.
وحول آداب الطريق يُعلّم الأب ولده الأسلوب الصحيح في اجتياز الشارع؛ إذ إن كثيراً من الآباء يغفلون هذا الجانب المهم فيما يتعلق بالطريق، وإن جهل الولد بهذه المعرفة، وعدم تدريبه عليها ربما كلف ذلك حياة الولد، أو إصابته إصابة لن يبرأ بعدها؛ فإن حوادث السيارات في العادة عنيفة، ونتائجها قاسية خطيرة؛ لهذا يدرب الأب الولد على حسن اجتياز الشارع، ويدربه على فهم رموز وألوان إشارات المرور، وكيف يستخدمها.
أما ما يتعلق بالسلبيات التي يمكن أن تؤثر على الولد في طريقه، وما يشاهده في الشارع، فإن العالم الإسلامي اليوم قد خالطه كثير من الشر والانحراف، فكثير من البلاد الإسلامية امتلأت شوارعها بالنساء المتبرجات، ومحلات الخمور وبيوت الدعارة، وأماكن اللهو المحرم من المراقص والنوادي الليلية، وشواطئ العري، وغيرها من مظاهر الانحراف، إلى جانب منكرات القول، وسوء الألفاظ، والغيبة، والنميمة، والغش، وترك الصلاة في المساجد، وغير ذلك.
هذه المنكرات والمثالب لا بد للأب المسلم أن يكون له مع ولده موقف واضح منها؛ إذ إن الولد يسمع من أبيه كلاماً جميلاً عن الإسلام وآدابه، وحسن السيرة والمعاملة، فإذا خرج إلى الشارع وجد تناقضاً تاماً بين ما يسمع وما يرى، فلو قدر أن عاش الولد فترة من الزمن على هذه الحال دون توضيح أو إرشاد من المربي، وقع في نفسه جواز مخالفة القول للعمل، وأن هذه المثاليات التي تقال ليست للتطبيق في الشارع، وأن هؤلاء الناس ليسوا مطالبين بهذه الآداب والأحكام الشرعية، وهذا التصور المنحرف إن وقع في نفس الولد كان كافياً لانحرافه بالكلية وضياع جهد التربية والتعليم، وما هلك أكثر المسلمين وضلوا إلا لمخالفة أقوالهم ومعتقداتهم لواقع حياتهم وأفعالهم.
والحل في هذه القضية لا يكون بعزل الولد عن المجتمع بالكلية، فهذا أمر لا طائل وراءه، ولا يمكن تحقيقه، وليس هو بالحل السليم، حتى وإن أمكن تحقيقه، ولكن الذي يطالب به الأب ويسعى لتحقيقه هو: حماية الولد من تأثير الشارع قدر المستطاع، وفي حدود الإمكانات البشرية المتاحة، دون تكلف أو تفريط، فيحاول دائماً تعريف الولد بالنماذج الصالحة التي يصادفها في الطريق، وتعريفه أيضاً بالنماذج المنحرفة التي يراها، ويعلمه ويدربه على ذلك بالتكرار حتى تصبح لديه القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب، وبين من يمثل الإسلام واقعاً في حياته، وبين المفرِّط المسيء، ويحاول أن يزيل ما يقع في ذهن الولد من تصورات، أو أفكار منحرفة، أو شبهة مما تلقيه الجاهلية في داخل المجتمع المسلم، فيرد على هذه الشبهات ويرد تلك التصورات الخاطئة مستعيناً في كل هذا بقوة الله وعونه، ومتبرئاً من حوله وقوته؛ فإن هذه المهمة الشاقة لا يقدر عليها إلا من وفقه الله تعالى، وأراد به وبذريته الخير.
لاتوجد تعليقات