رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: سامح محمد بسيوني 8 مايو، 2017 0 تعليق

آداب الحوار

 

 

لا يخلو الإنسان في حياته من الحاجة إلى الحوار وآدابه؛ فالإنسان في علاقةٍ دائمة ومستمرة مع المجتمع والناس من حوله، يحاورهم ويناقشهم و يتفاوض معهم؛ فالحوار في حقيقته هو مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين أو أكثر بقصد الوصول إلى الحق وإثباته، أو رد الفاسد من القول و دفع شبهته بطريقة يغلب عليها الهدوء والتجانس والتفاهم، بخلاف الجدال الذي يدل على المخاصمة والمنازعة؛ لذا فإن كل باحثٍ عن الحق، وكل داعيةٍ إلى الله، بل وكل صديق مع صديقه أو أخ مع أخيه أو فرد مع أسرته - ولاسيما في تلك الأوقات التي زادت فيها حدة الاستقطاب والاعتداد بالرأي - يحتاج بلا شك إلى معرفة آداب الحوار الواجب اتباعها حتى لا يخرج الحوار عن هدفه فيتحول إلى جدال يؤدى إلى المخاصمة والمنازعة، فمن تلك الآداب التي يجب توفرها في الحوار :

الإخلاص والإنصاف عند المحاورة

     فلابد أن يتصف المحاور بالإخلاص، وأن يقصد بحواره الوصول إلى الحق ابتغاء مرضاة الله وحده، ويظهر أثر ذلك الإخلاص عند حواره مع غيره في إنصافه لمخالفه في نقاط حواره الصحيحة وعدم قصدالانتصار للنفس؛ حيث تظهر صور انتصار المحاور لنفسه غالبا في العلو على المحاورين الآخرين، مع استعراض القوة في الكلام وعلو الصوت، والتعصب في طرح وجهة النظر في محاولةٍ لإثبات صحة رأيه أو رأى شيخه أو مذهبه، أو طائفته أو حزبه أو جماعته على رأى غيره، مع الغفلة عن أن ظهور الحق على يديه أو على يد صاحبه خيرٌ للجميع وفضلٌ عليه من الله تعالى.

     وقد وجهنا الله -عز وجل- في كتابه الكريم إلى ضرورة التَمثّل بالإنصاف في الحوار وإن كان معك الحق المطلق، كما ذُكر في بيان حوار النبي . صلى الله عليه وسلم  مع المشركين في قوله -تعالى-: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(سبأ:24)، قال البيضاوي في تفسيره (وإنا أو إياكم) : «بأنه في صورة الإنصاف المــُسكت للخصم المشاغب»، فإن كان هذا في الحق الواضح بلا خلاف بين المسلمين والكافرين، فما بالنا إن كان الأمر اجتهاديا بين المسلمين؟! فلا يقال: نحن على حق وأنتم على باطل من أول الحوار؛ لأنه حينئذ لن يجدي النقاش؛ إذ إن كلاًّ من الطرفين سيتعصب لرأيه ويدعي أنه وحده على الحق، ولن يسعى حينئذ إلى تفهم وجهة نظر الآخر .

     قال الجويني -رحمه الله-: «فأول شيءٍ على المناظر أن يقصد التقرب إلى الله -سبحانه-، ويطلب مرضاته في امتثال أمره -سبحانه وتعالى- فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى الحق، ويتقي الله أن يقصد بنظره أو بمناظرته المباهاة وطلب الجاه، والمماراة والرياء، ويحذر أليم عقاب الله، ولا يكون قصده الظفر بالخصم، والسرور بالغلبة والقهر».

     و قال الشافعي -رحمه الله-: «ما ناظرت أحداً قط على الغلبة». أي: ما دخلت في نقاش مع أحد قط ونيتي أن أغلبه فقط إنما للوصول إلى الحق مني أو منه، بل كان من إخلاص الشافعي -رحمه الله- قوله : «ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ»، وقوله أيضا: «ما كلمت أحداً إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، وما كلمت أحداً قط إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه».

     وهذا تجرد صعب، لكن من أراده وفقه الله -تعالى- إليه وأعانه عليه، وقد رُوى في ذلك ما كان بين الشافعي وإسحق بن راهويه؛ فقد روى الحازمي بإسناده عن أبي الشيخ الحافظ، أنه قال : حُكي أن إسحاق بن راهويه ناظر الشافعي - وأحمد بن حنبل حاضر - في جلود الميتة إذا دبغت، فقال الشافعي: دباغها طهورها، فقال له إسحق: ما الدليل؟ فقال: حديث الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال: «هلا انتفعتم بإهابها؟»، فقال له إسحق: حديث ابن عكيم: «كتب إلينا النبي صلى الله عليه وسلم  قبل موته بشهر: ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب»؛ فهذا يشبه أن يكون ناسخا لحديث ميمونة؛ لأنه قبل موته بشهر، فقال الشافعي: فهذا كتاب، وذاك سماع، فقال إسحق: فإن النبي[ كتب إلى كسرى وقيصر، فكانت حجة بينهم عند الله، فسكت الشافعي؛ فلما سمع (ذلك) أحمد ذهب إلى حديث (ابن) عكيم، وأفتى به، ورجع إسحق إلى حديث الشافعي».

     قبل الدخول في الحوار لابد من علمٍ بالمسألة التي سيكون الحوار عنها، وإذا لم يكن الإنسان ذا علمٍ بما يحاور من أجله فلا يجوز أن يدخل في الحوار أصلاً، قال -تعالى-:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} فجعل البصيرة شرطا في الدعوة إلى الله -تعالى- وهى سبيل الأنبياء وأتباعهم، وذم -سبحانه وتعالى- أقواماً يجادلون بغير علم، وجعل ذلك في حقيقته اتباعا للشيطان فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ}، وذم كذلك أهل الكتاب في محاجتهم فيما ليس لهم به علم فقال -سبحانه وتعالى:{هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.

     فحين يدخل بعض الناس في حوارات دون علم أو إعداد – وإن كان معه الحق - فإنه يفسد أكثر مما يصلح؛ لأنه إما أن ينزلق للإفتاء والكلام بغير علم فيكون ممن يدعو بذلك إلى هواه ورأيه وشيطانه، وتلك مصيبة كبرى؛ فيكون حاله كحال من قال الله في حقهم: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}، أو يكون ذلك سببا في ظهور صاحب الباطل عليه لضعف حجته فيُلبِّس صاحب الباطل على الناس بذلك في ترويج باطله. فكان واجبا على المحاور أن يكون على علم بشرع الله المطهر كتاباً وسنةً، وبالواقع الذي يتعلق بموضوع الحوار والنقاش إجمالا وتفصيلا حتى يكون على هدى من أمره ومقنعا لغيره بما لديه من حق.

تحديد موضوع النقاش وتحرير محل النزاع فيه

     فلا بد أولا من تحديد الموضوع الذي سيتم النقاش حوله والهدف من هذا النقاش، وعدم التشعب إلى موضوع آخر إلا بعد الانتهاء منه؛ فالحوار يموج ويضطرب أشد الاضطراب إن لم يُمنع الاستطراد والتشعب بين الموضوعات؛ لذا فقد كان الشافعي -رحمه الله- كما قال عنه الربيع بن سليمان: إذا ناظره إنسان في مسألة فغدا إلى غيرها يقول: نفرغ من هذه المسألة ثم نصير إلى ما تريد، ويتلطف في دفع ذلك في مباديه قبل انتشاره وثوران النفوس. ( أداب العلماء والمتعلمين) .

     ثم يجب بعد ذلك تحرير محل النزاع في الموضوع المطروح ذاته، والمقصود هنا بتحرير محل النزاع هو: تعيين وجه الخلاف بين المتحاورين والوقوف على الموضع المختلف فيه بالتحديد؛ ليخرج من النزاع ما ليس منه، فتكون النتيجة وضوح الرؤية والوصول للحق بسهولة ويسر، سواء للمتحاورين أم السامعين بعيدا عن حوار الطرشان الذي ينتج من القفز علي هذه الخطوة المهمة أو تناسيها فيصير كل طرف من المتحاورين في وادٍ يتكلم و يحشد فيه أدلته بغض النظر عن كونها تصلح في محل النزاع أم لا، فتتسع فجوة الخلاف ويتحول إلي جدل بيزنطي لا فائدة منه .

وانظر - رحمني الله وإياك - إلى حوار النبي صلى الله عليه وسلم  مع أسامة بن زيد رضي الله عنه في الحديث الذي رواه أسامة رضي الله عنه كما في صحيح البخاري عن أسامة بن زيد -رضى الله عنهما- قال :

بَعَثَنَا رَسُولُ صلى الله عليه وسلم  إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَالَ: فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، قَالَ: وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، قَالَ: فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِىُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِى حَتَّى قَتَلْتُهُ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا، بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيّ[، قَالَ: فَقَالَ لِي: «يَا أُسَامَةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟!».

قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟! ».

 

     قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ فالنبي[ في هذا الحوار ركز على أصل القضية مع أسامة] من أنه قتل الرجل بعد قوله: «لا إله إلا الله» مع كونه لم يأت بناقض لها بعد النطق، ولم يتشعب النبي مع أسامة في الأسباب التي حاول أن يسوقها رضي الله عنه لتسويغ فعله من كون الرجل كان متعوذا أو كونه قد قَتل من الصحب الكثير أو غير ذلك قبل النطق بكلمة التوحيد .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك